امرأة محرومة

امـرأة محـــرومة

يرويها لنا
الكاتب الكبيـــر
يوسف السباعى

هذه
مذكرات امرأة مجنونه ..... أو على الأصح ..... امرأة محرومة حاولت أن تعوض نفسها
عن ذلك الحرمان الذى أصابتها به الحياة فنجحت فى ذلك الى أبعد حد ..... وان كانت
لم تسلم من أن يتهمها الناس بالجنون ..... ولكن ماذا يضيرها أن يقولوا عنها مجنونة
..... وان كانت قد استطاعت أن تمنح نفسها ما قد حرمتها الحياة اياه.

ولقد
لمحت المرأة مرة أو مرتين ..... وهى حبيسة فى دارها .....فى شرودها وذهولها .....
ونحولها وذبولها .... فلم أشك قط فى أنها لا يمكن أن تكون الا مجنونه .... ثم
أنبئت بعد ذلك بوفاتها ..... فلم يدهشنى النبأ ..... فقد كانت أقرب الى الأموات
منها الى الأحياء ..... حتى لقد خيل الى انها هيكل أو شبح ..... ثم استطعت بعد ذلك
– بطريقه ما – أن أطلع على مذكرات لها ..... وأقبلت على قراءتها بلهفة شديدة .....
فقد كان بى شوق الى ان أقرأ كتابة مجنونة ..... وخاصة هذه المرأة ..... اذ كنت أود
أن أعرف فيم كان ذهولها وشرودها ..... وكيف كانت طريقة تفكيرها.

وأخيرا
انتهيت من قراءة المذكرات ..... فلم أحاول ان أبرى المرأة من الجنون ..... حتى لا
أثير جدلا .....ولكنى لم استطيع أن امنع نفسى من التساؤل ..... ما هو الجنون ؟؟؟
وما هو الحد الفاصل بين العاقل والمجنون ؟؟؟

ألم
يحس أحدكم ذات مرة بذلك الألم الذى ينتابه عندما يشعر بعجز أمام شخص قوى يحاول
ايذاءه وهو لا يملك أن يرد الأذى ؟..... ثم ألم يحس بألمه يزول وغضبه ينفثئ عندما
يخلو الى نفسه ، فيتصور أنه قد حطم ذلك الشخص القوى ورد عن نفسه ذلك الأذى ؟

أجل
..... أولم يحس بالكثير من الراحة لمجرد ذلك التصور ؟

ألم
يحاول أحدكم عندما يحرم متعة من المتع ، أو لذة من اللذات أن يتلمسها عن طريق
الخيال ؟

هل
اتهم نفسه حينذاك ..... أو أتهمه أحد ..... بانه مجنون ؟

اذا
فلم نتهم هذه المرأة بالجنون وهى لم تفعل أكثر مما يفعله امرؤ حاول أن يتلمس متعته
عن طريق الخيال ..... ؟؟؟

على
أية حال ..... مجنونه كانت أم غير مجنونة ..... اليكم مذكراتها فاقرأوها وقولوا ما
شئتم ..... فما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها

خمسة وثلاثون عاما ؟ يا للسنين التى تمر فلا
تترك لى سوى الألم ، ولم تخلف لى غير الوحشة والفراغ ..... أية حياة تلك التى
أحياها ..... ما أشبهنى بسائحة فى بيداء مقفرة فى سأمة جرداء ..... لا ماء فيها
ولا رواء ، ولا ظل ولا ثمر ..... كلها سآمة فى سآمة وملل فى ملل ..... لا أبصر سوى
الأمل السرابى ، واللمحات الكاذبة .
انى
أنتظر وأنتظر ..... وأحس بالعمر يتسرب ، والأعوام تتوالى متسللة ..... فتتملكنى
لوعة ..... ويغشانى أسى أليم ..... ولكنى أتظاهر بالرضا والقناعة ..... وماذا أستطيع
غير ذلك ، وأنا لا املك سوى التمنى والانتظار .
انى
امرأة محرومة ..... محرومه من الشئ الذى خلقت لأجله ، محرومة من نعمة الحياة التى
تتوق اليها نفس كل أنثى ، محرومة من الزوج والبنين ..... محرومة من كل شئ الا
الفراغ والوحدة ؟
ومع
ذلك فلا يسعنى سوى الصبر وادعاء السعادة ، خشية من السخرية ، وأنا التى لو كان الأمر
بيدها لصاحت بكل ما فى صدورها من لوعة مكبوتة : " أريد زوجاً ..... أريد بنين
"
خمسة
وثلاثون عاماً ..... مرت ثقيلة بطيئة ..... فما وهبت لى الا زيادة فى العمر ،
وزيادة فى الشعور بالحرمان ..... انى لانظر فى المرآة فارى هبتها جلية فى وجهى
..... ذبول ونحول وشحوب.
لقد
مللت الحياة ..... ومللت العمل ..... ما أسخف اولئك الذين يظنون أن المرأة يغنيها
العمل عن الزواج ..... هم يظنون أن الزواج وسيلة للعيش ..... أو مورد للرزق .....
ما أشد حمقهم ! لقد كرهت ضجيج الحياة ، وضجيج العمل ..... فهو ضجيج أجوف كالطبل ،
وقد خلا من موسيقى الالف وتغريد البنين ، أنى أحس بالرغبة فى ان أستريح من حياتى
برهة ..... انى اتوق الى شئ من التغيير أيا كان.
كم
سرنى أن أنتقل الى هذه الدار النائية فى احدى الضواحى ، لا شك ان الصيف فيها سيكون
خيرا منه فى جوف المدينة ، ولا شك أنى سأجد تسلية فى حديقتها الواسعة ..... انها
تحتاج الى كثير من العناية والتنسيق ..... ثم ان أجرها أقل بكثير من أجر الطابق
الضيق الذى كنت أقطنه فى وسط المدينة ..... فهى من تلك الدور التى يعرض عنها
السكان فتظل خالية ..... لا لشئ الا لمجرد ما يشيعه عنها من انها " مسكونة
" وما تجود به من خيالاتهم عما رأوه فيها من جن وما صادفوه من أرواح وأشباح .
ولم
أتردد برهة فى الانتقال اليها ..... وقلت لنفسى ضاحكة : من يدرى عساى ان اجد فى
الجن والأرواح ما يؤنس وحدتى ..... ويذهب وحشتى.
وسرتنى
حياتى فى الدار الجديدة ..... فقد أحسست بشئ من التغير ، وخاصة أننى قد بدأت عطلة
الصيف ..... فصممت على ان أتمتع بحياة جديدة ..... وأن أنعم بالحديقة والهواء
..... وألا أفعل شيئا سوى النوم والقراءة.
ومر
الأسبوع الأول وأنا منهمكة مع البواب وامراته فى تنظيف الدار من تلك الأتربة
المتراكمة ..... وفى تنسيق الحديقة وازالة الأعشاب والحشائش ..... حتى ذهب عنها
المنظر الموحش الذى كانت تبدو به .
ولا
أستطيع أن انكر ذلك الشعور بالرهبة الذى كان يتملكنى فى بادئ الامر ..... عندما
كنت أذهب الى الفراش بعد أن اطفئ النور ..... أو عندما أسمع فرقعه هينة أو صوتا
يصدر من هنا أو من هناك من تلك الأصوات التى لا يخلو منها أى بيت ..... كصوت نافذة
يغلقها الهواء ..... أو قطة تقفز فى الحديقة أو تمشى على السطح ..... ولكن الرهبة أخذت
تزول على مر الأيام ، وحل محلها اطمئنان الى كل ما فى الدار .

وفى
ذات يوم جلست فى ركن ظليل بالحديقة ..... وأخذت
أتسلى بقراءة احدى القصص ، وقد جلست امامى امرأة البواب ترتق بعض الثياب .....
وأحسست بتعب من القراءة فألقيت بالكتاب جانبا ..... وتثاءبت فى كسل ..... وبدأت
أجاذب المرأة أطراف الحديث ..... حتى جرنا الحديث الى ذكر تلك الاشاعة التى يطلقها
الناس على الدار وما يرجفون به من أنها " مسكونة " ..... وكيف تسبب ذلك
فى ان تمكث الدار مهجورة طول تلك المدة ، وقالت المرأة

أنا
لا انكر سيدتى أن هناك دورا " مسكونة " ولكن الواقع ان هذه الدار بالذات
مظلومة بين هذه الدور ، لأنى لم أر فيها شيئا قط ، وكل ما سمعته عنها قصة قديمة
لست أدرى مداها نت الصحة ، وهى أن صاحبها الأول قد شيدها لتكون سكنا له ولزوجته
الجميلة المحبوبة ، وأن حياتهما كانت نموذجا لحياة هادئة ، وقد زادت سعادتهما بذلك
الطفل الجميل الذى أنجباه والذى نما وملأ البيت تغريداً وترنيما

وفى
ذات يوم غابت الزوجة عن البيت ، ثم أكتشف الرجل أنها فرت مع عشيق لها تعودت أن
تذهب اليه فى غفلة منه ، وكاد الرجل يصعق ، ولكنه تجلد وتمالك ، ووجد فى ولده
العزاء كل العزاء ، وسرعان ما شفى الله جرحه وأذهب لوعته

وبدأ
يجد السعاده فى حياته مع ابنه ، و أخذ يكرس لتربيته والعناية به كل وقته ، حتى كاد
ذات يوم وقد جلس الرجل فى الحديقة يقرأ فسمع فجأة صوت سقوط جسم يصطدم بالأرض وصرخة
مدوية تشق السكون المخيم ، وقفز من مكانه كمن لدغته عقرب ، فوجد الصبى قد هوى من
الشرفة وهو يلهو ، فدق عنقه ومات لساعته .

وهجر
الرجل الحزين الدار فلم يعد اليها قط ، ولا يدرى أحد ما حل به بعد ذلك ..... ربما
جن ..... وربما قد انتحر ..... أنها قصة قديمة

وأنتهت
المرأة من قصتها التى لا تدرى هى مداها من الصحة ، والتى قد تكون محض خرافة ، ومع
ذلك فقد انتابنى من سماعها شعور بالحزن عميق ، وأحسست بعطف شديد على الرجل الذى
ربما لم يكن له وجود الا فى خيال المرأة ، أو فى خيال من قص عليها القصة

ولا
أدرى ما الذى جعل القصة تتجسم فى مخيلتى ، ولا أدرى ما الذى جعلنى أزج بنفسى بين
أبطالها ، فأقارن بينى وبين الزوجة الخائنة التى وهبت لها الحياة كل ما حرمتنى
اياه ..... وهبت لها الزوج الوفى الامين ، والابن الذى تلهفت عليه ..... فركلت كل
هذا بقدمها ، وفرت من عشها لا تلوى على شئ.

أترانى
لو كنت مكانها ، أكنت أفعل ما فعلت ؟ وتخليت الرجل أمامى يعدو فى الحديقة ضاحكاً
خلف الصبى ..... وتخيلت أنهما زوجى وأبنى ، فأحسست بنشوة عجيبة ، وقلت لنفسى ان
المرأة الهاربة لا شك بلهاء مخبولة ، كافرة بنعمة الله .

وفى
هذه الليلة بدأت أحس أول تغير يطرأ على الدار ، وخيل الى أنى أسمع وقع أقدام تسير
فى الحجرات ..... وأحسست بخوف شديد ، ولكنى وجدت الحجرات خالية فلم اشك أننى واهمة
.

ومرت
الأيام ، فازداد شعورى بالأصوات والهمسات حتى كانت تمر بى لحظات لا أشك فى خلالها
أن هناك أشخاصاً غيرى يتحركون فى الدار ، ولكنى لا أبصرهم ، وفى ذات ليلة جلست
أقرأ قبل النوم ، وسمعت الأصوات واضحة تمام الوضوح كان أصحابها يجلسون فى الحجرة
المجاورة !

وكان
الصوت صوت طفل ورجل ، وصمعت الطفل يقول : " غنى لى أبوح ..... يا أبوح "

,اجابل
الرجل متسائلا : " ثم تنام ؟ "

أجل
.....

وبدأ
الرجل يغنى " أبوح يا أبوح كلب العرب مدبوح "

وصاح
الطفل فجاة متسائلاً " ومن الذى ذبحه " ؟

وتردد
الرجل برهة قبل أن يجيب فى حيرة : " لقد وجدوه هكذا مذبوحا ..... ولم يعثروا
حتى الآن على القاتل "

ورغم
ما أصابنى من خوف وقتذاك لم استطيع أن أمنع نغسى من الضحك بصوت مرتفع ..... وخيل
الى أن الصوت قد وصل الى الطفل والرجل ..... فقد كفا عن الحديث ...... وتسللت الى
الغرفة المجاورة فلم أجد بها أحد !

ومنذ
ذلك الحين ازداد يقينى بوجود الرجل والطفل ..... وبدأت أحس بهما فى كل مكان من
الدار ..... وأخذت أنصت الى تلك الاحاديث التى تدور بينهما دون أن ارسل صوتا أو
حركة حتى لا يكفا عن الحديث ..... فقد كنت أحس من وجودهما بنشوة عجيبة ، مشوبة بشئ
من الخوف .

وخيل
الى أنى قد بدأت لعبة خطيرة ..... لعبة لم يحاولها أحد سواى ..... قد يكون الطرف
الاخر فيها من صنع الوهم ، ولم أجد ما يمنع من أن أستمر فى اللعبة ، مادمت أحس
منها بمتعة ، ولكنى صممت على ان أحيط نفسى بالكتمان وألا أنبئ أحد بتلك الاشباح
التى احس بحركتها وأسمع صوتها ..... فقد خشيت أن أتهم بالجنون ..... على أنى لم
أكن فى يوم ما أوفر عقلا منى الان .

وبدأت
احاول أن ابصر الرجل وأبنه ..... فما كنت أسمع همسا أو صوتا حتى أتسلل فى اتجاهه
..... ولكنى كنت لا ارى شيئاً ..... ومع ذلك فقد كنت واثقة من وجودهما ..... أجل
..... من المحال أن يكونا غير كائنين.

وأستيقظت
ذات صباح على صوت أشبه بصوت دراجة صغيرة من دراجات الأطفال ذات العجلات الثلاث
تتحرك على أرض الصالة.

فمددت
رأسى قليلا لأبصر الصالة من خلال الباب ، فرأيت عجباً .

لقد
كان الطفل هناك .....بدمه ولحمه ..... ووجنتيه المتوردتين وشعره الأصفر المدلى على
جبينه ، وشعرت بغبطه شديده ووجدتنى أناديه بصوت كالهمس ، ولم يبد عليه انه سمعنى ،
ولكنه أختفى مرة أخرى ..... أجل لقد أختفى ، دون أن أعرف كيف أختفى ، لقد كان هناك
منذ ثانية ..... وفى الثانية التى تلتها لم يكن هناك .....!

وفى
ذلك اليوم طردت الخادمة ، فقد رغبت أن
أكون فى الدار وحيدة ، ثم رأيته كثيرا بعد ذلك يروح ويغدو فى الدار ..... يضحك
تارة ويصيح أخرى ..... وبدأ يعبث بأثاث الدار ، ويقلب المقاعد ليتخذ منها ( حميرا
) يمتطيها .

ولم
يكن الطفل يرانى أو يحس بوجودى ، ولم يكن صوتى يصل الى سمعه ، ومع ذلك فقد اشعر
أنه أصبح قطعه منى ولم أحاول أن أترك الدار بعد ذلك لحظة واحدة أو أقابل أحد فقد
سرتنى الحياة مع الطفل وأبيه ، وان كنت لم أبصر أباه بعد.

وكنت
أتهرب من رؤية البواب وزوجته ، ومنعت البستانى من أن يباشر عمله فى الحديقة ،فقد كان
الطفل كثيرا ما يلهو بعمل بيوت من الرمل فيها ، وكنت أكره ن يراه الناس .

وفى
ذات يوم أقبلت على امرأة البوا ويتها تنظر الى نظرات بها كثير من الرأفة والحزن .

وأنبأتنى
المرأة اننى قد هزلت كثيرا وأننى يجب ألا أسجن نفسى فى الدار على هذه الحال.

وشكرت
المرأة وأنبأتها فى أقتضاب أنى احس ميلا الى الوحدة ، وانى لا أرغب فى الخروج ،
وتركتنى وهى تهز رأسها فى دهشة وحيرة.

ولم
تكد تنصرف حتى قمت الى المرآه ، وكانت هذه أول مرة منذ بدأت انهمك فى حياتى
الجديدة اقف فيها أمام المرآة ، وراعتنى تلك الصورة التى أبدو عليها .....وهالنى
ذلك الاصفرار والشحوب ..... وذلك الشعر المهمل والشبيه بشعر امرأة مجنونة، ومددت
يدى الى المشط لأعيد تمشيطه وتصفيفه ..... ونظرت فى المرآة فلم أجدنى وحيدة !

أجل
لقد أبصرته لأول مرة ، وقد وقف بجوارى يمشط شعره هو الأخر ، وقد بدا حلو التقاطيع
، جذاب الملامح ، طويل القامة ، متين البنيان ، وأحسست بفرحة لا توصف ، ثم ألتفت
اليه فلم أجد شيئا ، وأعدت النظر فى المرآة فوجدت الصورة قد ذهبت أيضا.

ثم
أعتدت أن أبصره بعد ذلك ..... هو وأبنه ..... ووجدتنى أكن لهما حبا عجيبا .....
أجل ! لقد أحببت هذين ( الشبه كائنين ) أمثر مما أحببت أى ( كائن ) فى هذه الحياة
.

وحاولت
أن أتحدث اليهما ..... ولكنهما لم يسمعانى ..... وحاولت أن انظر فى أعينهما فلم
يبصرانى ..... وعندما كنت أتقدم لآلمسهما كانا يتطايران فى الهواء.

وحدث
ذات يوم وقد جلست فى أحدى الحجرات أن رأيت الطفل يدخل الشرفه ويمد راسه من فوق
الحاجز ، وتذكرت القصة التى سمعتها من امرأة البواب ، وكيف سقط الطفل من الشرفة
فدق عنقه ..... فصحت به ناهرة اياه كيلا يطل من الشرفة ، وكم كانت دهشتى شديدة
عندما رأيت الصبى يسمع صيحتى فيلتفت الى ثم يعود الى داخل الحجرة.

ومنذ
ذلك الوقت والصبى يعرفنى تمام المعرفة ويبصرنى كما أبصره ويزدجر اذا ما زجرته ،
ويطيع اذا ما أمرته ..... بل أكثر من ذلك أنه كان ينادينى " ماما " ويا
للمتعة العجيبة التى كنت أحس بها وقتئذ .

ولم
تمض فترة قصيرة حتى بدأت الرجل نفسه يحس وجودى ويرانى كما أراه ، وكان ذلك فى احدى
الامسيات وقد جلس فى الحديقة فى سكون الليل ، وشرد ذهنه ، فراح فى تفكير عميق ،
وخيل الى انى المح فى قسماته حزنا ولوعة ، لم أشك فى انه يفكر فى امرأته الهاربة ،
وأحسست نحوه حنينا ، وتمنيت لو استطعت أن أنسيه اياها ، وأن أعوضه عن حبها بما
يخفف من لوعته ويذهب من حزنه .

ورغم
معرفتى أن صوتى لا يمكن ان يصل اليه ، وأننى لو لمسته لتطاير وتحلل ، فقد وجتنى
أندفع اليه بقوة الحنان الذى يجيش فى صدرى ، ولمست ذراعه ، فلم يتطاير فى هذه
المرة ، بل انتفض ورفع الى رأسه فى دهشة .

ومددت
يدى الى رأسه أتحسسه برفق ، فرأيته قد أستراح الى وزالت عنه تلك الدهشة ونظر الى
كأننى لست غريبة عنه ، او كأنى امرأته المحبوبه التى ما فارقته وما هجرته .

وفى
الصباح سمعت امرأة البواب تطرق الباب ..... وترددت برهة قبل أن افتح لها ، فقد كنت
لا اريد أن أرى احد ..... وكنت أحس كراهية شديده للناس ، ولكن المرأة المجنونه
الحت فى طرقها ، فقمت الى الباب غاضبة وسألتها عما تريد ، ونظرت الى المرأة وقد
بدا عليها الفزع كأنما قد أبصرت شبحا مخيفا ، وتوسلت الى أن أرحم نفسى وان أزور
طبيبا ، ولكنى صحت بها أن تغرب عن وجهى وأغلقت الباب خلفها بشدة .

وعادت
المرأة أدراجها ووصل الى صوتها وهى تقول لزوجها : مسكينة لقد أصبحت مجنونة.

مجنونة
! أنا مجنونة ؟ أيها الحمقى ..... اليكم عنى .

اتركونى
حيث أنا ..... ماذا يهمنى منكم ..... ومن دنياكم ..... بعد لحظة أو بعد يوم .....
أو بعد عام ..... ستكفون عن الحياة ..... وسأكف أنا كذلك ..... وبعد حين من الدهر
..... ستكف الحياة عن نفسها عن أن تسرى فى هذا الكون وسنصبح كلنا كهؤلاء الذين
أ‘يش معهم والذين أعطونى ما حرمتمونى ومنحونى ما بخلتم به على .

ماذا
أخشى ولم اعد بعد محرومه ..... ؟ وماذا تخشون على شرا من الحرمان الذى كنت فيه
..... هبونى كما تقولين مجنونة ماذا يضيرنى من الجنون وقد وهب لى ما حرمت وهب لى
الزوج والابن ..... لو كنت حقا مجنونة كما تقولون ..... " فأنعم بالجنون
وطوبى للمجانين "

*********************************************

ولكم جميعا ان تحكموا عليها

ترى اهى إمرأة مجنونه ............. ام ......... امرأة محرومة