بينا ان السبب الثاني التي تبينه هذه الاية
القرانية هي قضية الكفر بايات الله عبر التمسك بغيرها في ( تخلف
المسلمين.. الكفر بايات الله) و الان نريد ان نتحدث عن السبب الثالث من
اسباب التخلف وهو قضية خذلان الحق ، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى :
(ويقتلون النبيين بغير الحق)
عندما نأتي الى موقف البشر من الرسالات السماوية نجدهم يتمايزون الى ثلاثة فرق:
1- القلة الذين يؤمنون بالرسالة والرسول،
يطبقون الشرائع والاحكام، يقفون موقفاً واحداً ويتهيأون لنصرة الرسالة
بأموالهم وباولادهم وبأنفسهم ايضا.
2- القلة –ايضا- الذين يكفرون بالرسالة
والرسول، يحاولون ان يقفون في طريق نشر الرسالة، فهم يكيدون المكائد
ويعملون ليل نهار لأجل اسقاط الرسالة ويعملون على الحصار الاجتماعي
والاقتصادي والسياسي وان لمن ينفع ذلك يحاولون قتل الرسول.
3- اما الفئة الثالثة فهم الكثرة الذين
يقفون موقف المحايد من كل هذا، فينظرون الى الصراع القائم بين الرسول وبين
اعدائه صراعا على اساس السلطة فيتغنون فيما بينهم (ما لنا والدخول بين
السلاطين)، فهم لا همّ لهم الا مصالحهم، ينظرون الغلبة لمن لكي يتبعونه.
فالأمثلة والشواهد على هذه الفئات كثيرة،
فالرسول محمد ص في مكة يؤمن به قلة، ويعاديه قلة (وهم قريش)، اما المحايدون
فهم جمهور اهل مكة، فإن كان الغلبة لقريش – كما في بداية عهد الاسلام-
اتبعوهم وان كان الغلبة للرسول ص –بعد فتح مكة- اتبعوه، لذلك فلا يمكن لأحد
ان يساوي بين من آمن وهو خائف وجل من بطش قريش، يخاف على دينه قبل خوفه
على نفسه وماله، وبين من آمن مطمئنا. فكما يقول الله سبحانه
(لا
يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل، اولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من
بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير)
فمن الواضح ان موقف المؤمن بالرسالة موقف صائب، وموقف الكافر بها والصاد عنها موقف خاطئ، لكن فما بال “المحايدون”؟
نقول، في القضايا اليومية كثيرا ما نشاهد
المحايدون، حتى أن في مجالس النواب نجد من يمتنع عن التصويت في قضية معينة
ولا اشكال في ذلك، وفي انتخابات الرئاسية في البلدان المختلفة فان
المشاركين لا يزيديون عن 70% من اصل المخولين بالمشاركة، مما يدل على انهم
لا رأي فيهم ولا تهمهم المعركة.
لكن في قضية الصراع بين الحق والباطل وهو
صراع ولد بولادة الإنسان ويموت بموته، لا يمكن ان يكون هناك محايداً،
فاللون الرمادي لا مكان فيه في هذا الصراع. فهو يشبه الى حد بعيد حرباً
شاملة بين حضارتين كونيتين، فإما ان تكون مع الاولى ضد الاخرى او العكس،
وإلا ستكون ضد الاولى والثانية معا!!
فإما ان تكون مع الحق، وإما ان تكون ضده..
فالمحايدون في قضية (الحق والباطل) هم في الحقيقة اصحاب الباطل وان لم
يعترفوا بذلك، فاللون الرمادي (وهو المحايد بين الاسود والابيض) لا يمكن ان
يكون ابيضاً في يوم من الايام ولكنه بالقطع واليقين يميل الى السواد (و ان
لم يعترف بذلك).
فليس هناك فاصلة بين الجنة والنار، فإما ان تكون في الجنة وإما ان لا تكون فيها والمعنى أنك في النار.
فبنو اسرائيل لم يكونوا قاتلي الأنبياء، بل
وقفوا موقفا محايداً من الأنبياء، فهم و إن امنوا برسالاتهم الا انهم
رفضوا الدفاع عنهم وعن رسالتهم، رفضوا العطاء في حقهم، رفضوا نصرتهم فقتلوا
الانبياء، لكن نسب الفعل – وهنا بيت القصيد – الى بنى اسرائيل (وتقتلون النبيين).
ولعل السبب في ذلك في أنهم وإن لم يقتلوا
الأنبياء مباشرة، بل كانوا سبباً في قتل الاخرين اياهم، بخذلانهم وعدم
نصرتهم وتقاعدهم عن واجبهم تجاه الأنبياء. فالاية القرانية حسب ظني تعني:
(كانوا يخذلون النبيين … فيقتلهم الاخرون … فكأنهم قتلوا النبيين)
لكن التعبير القراني جاء بأبلغ صورة ممكنة،
– كما هو حال القران- بأن ينسب الفعل الى بني اسرائيل لأنهم لم يؤدوا واجب
الحفظ والنصرة تجاه الأنبياء. وهذا التعبير يستخدم في البلاغة، فيقال لرجل
ترك متاعه في الشارع من دون حفظ ، فتلف . يقال له “اتلفت مالك” مع أن
الإتلاف كان من غيره. أو كمن دخل في صراع غير متكافئ فقتل على اثر ذلك،
فيقال عنه (قتل نفسه) وهكذا..
ولعل هناك حكمة قرانية اخرى من جراء هذا التعبير الالهي وهو ما يتناسب مع المنظومة الفكرية القرانية وهي فكرة (المسؤولية).
فالله سبحانه وتعالى يحدثنا في القران
الكريم المرة تلو الاخرى، بصورة مباشرة او بالتلميح او بالاشارة، يحدثنا عن
فكرة المسؤولية، فمن المواضيع الرئيسية المذكورة في سورة الاسراء – مرة
اخرى في الحديث عن بني اسرائيل – هي فكرة المسؤولية ان لم نقل ان الاطار
العام لهذه السورة هي نفس هذه الفكرة، فيقول (إن احسنتم احسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)، ويقول ايضا (وكل انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشورا)
كذلك نجد المعصومون عليهم السلام كيف كانوا
يربون اصحابهم على هذه الفكرة، فنجد ان امير المؤمنين علي بن ابي طالب
عليه السلام حيث يسمع خبر اغارة جيش معاوية على الانبار وقتل رجالا صالحين
فيهم واليه على المدينة، قام خطيبا في المسلمين فقال:
“ وقد بلغني
أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينزع
حِجلها، وقُلبها، ورِعاثها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلمٌ، ولا
أريق لهم دم، فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً“
فامير المؤمنين حزن على ان اتباع معاوية
كانوا يدخلون على النساء المخدرات في خدرهن، المسلمات وغيرهن من اهل الذمة،
فينزعون ما عليهن من الجواهر والحلي، فحزن الامام لأجل ذلك حزناً شديداً
ثم وجه الخطاب لأصحابه قائلاً لو مات على اثر سماع هذا الخبر رجلٌ من
المسلمين ما كنت أذمه، فكأن الأمر يستحق ان يموت الانسان من اجله.
بلى، من يحس بالمسؤولية، يحس بأنه مسؤول عن بقاع الارض وهوامها – كما في الحديث الشريف- فإنه يتأثر اشد تأثير بمثل هذه الاخبار.
فهذه المجموعة من الايات والروايات تحثنا
على ان نتحمل مسؤولية ما يجري حولنا .. فالحياة صراع بين الخير والشر.. بين
النور والظلام.. بين الصحيح والسقيم.. فما دمنا لم نقف بجانب الخير كنا قد
نصرنا الشر، فما دمنا لم نجهد في انارة الحياة كنا قد زدنا الظلام.
فالقران يخطابنا قائلا: أنت ايها الانسان
المسؤول عما يجري حولك من مجريات.. فكل صغيرة وكبيرة تسأل عنها.. فإن لم
يكن لديك عذرٌ مقنع وحجة دامغة فاستعد لحساب عسير.. فقد ورد في الحديث
الشريف: “ومن ظلم بحضرته مؤمن او اغتيب وكان قادراً على نصره ولم ينصره فقد باء بغضب من الله ومن رسوله“
فنحن المسلمين اليوم، مادمنا لم نحس
بمسؤولياتنا تجاه الحياة، فمن جانب لا ننصر الخير في مقابل الشر، لا ننصر
العلماء الربانيين والمجاهدين والمفكرين في مقابل تيار الالحاد والكفر من
جهة، والأنظمة الطاغوتية الكابتة للحريات من جهة اخرى، سيكون مصيرنا كمصير
بني اسرائيل.. ذلٌ ومسكنةٌ .. وسنبقى على هذا الوضع اجيالاً متعاقبة دون ان
نتخلص من مشاكلنا.