الاستسلام قهراً
عاد عبد
الفتاح من اليمن والغل يأكل قلبه من عصابات اليهود التي تنكرت لكل الشرائع، واغتصبت
أرض فلسطين، وتتربص بدول الجوار تود نهش أرضها، والاستحواذ على قدر أكبر من الهيمنة
على مقدرات المنطقة.
ولم يطل
به المقام كثيراً في حضن عروسه ياسمين، فحرب وشيكة مع إسرائيل تدق طبولها وقد ظهرت
في الأفق بوادر الأزمة .. فسارع بارتداء زيه العسكري وذهب إلى رفح، ثم تقدم إلى خان
يونس فدير البلح، وعندما اشتعلت شرارة الحرب في 5 يونيو 1967... أبلى عبد الفتاح
بلاءً حسناً مع وحدته العسكرية التي تمرست على القتال في اليمن. لكن صدرت الأوامر
فجأة بالإنسحاب إلى الخلف، فاعتقد أنها خطة عسكرية إلا أن العدو كان قد أحكم
الحصار، وبرغم ذلك لم يستسلم عبد الفتاح، وظل يقاوم إلى أن سقط أسيراً، واقتيد إلى
معسكرات بئر سبع التي لا تبعد كثيراً عن موقع أسره.
كان لا
يصدق أن سيناء كلها سقطت هي الأخرى أسيرة، وفقد ثقته بقادته الذين جعلوا لأولئك
اليهود الخنازير شأناً، واستطاعوا – وهم قلة قليلة – التغلب على جيوش العرب، وفي
عدة أيام اتسعت رقعة إسرائيل إلى أضعاف أضعافها.
كان يبكي
في البداية للحال الذي وصلوا إليه، وبعد ذلك كان يرتجف لمرأى حوادث القتل الجماعية
البشعة لأسرى الحرب، ويرتعد للقهر والذل والموت البطيء الذي يتحرك كل لحظة بين
الأسرى ليقطف خيرة شباب الوطن.
لقد رأى
من الأهوال مالا يوصف، وتوقف تفكيره عند أشياء كثيرة أهمها الموت بلا ثمن... ومعدته
الخاوية من الطعام، وجفاف حلقه لشدة العطش، ولم يتفاءل كثيراً عندما استدعوه لمكتب
قائد المعسكر باللغة العربية قائلاً له:
"إن
الجيش الإسرائيلي يحتل الآن سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، ولا حول
للعرب ولا قيام لهم من جديد".
أمر له
الضابط الإسرائيلي بالماء والطعام، وجيء له بكوب من العصير البارد.. وعلى بعد عدة
أمتار، شاهد بعينيه جندياً يهودياً يسوق أسيراً مصرياً، ويكبله في جذع نخلة ويطلق
عليه النار عدة مرات في تشفٍ وانتقام.
عندها
... صرخ عبد الفتاح في هلع، فسحبوه إلى حجرة أخرى ورجى استجوابه لمعرفة كل ما عنده
من أسرار العسكرية، وللمرة الثانية والثالثة يرى مشهد القتل لأسير مكبل، فيموت
هلعاً... ويحاول في وهن خائر إقناعهم بأن معلوماته قاصرة بسبب تواجده لعدة سنوات في
اليمن.
بعدها
بأيام ذهبوا به لغرفة التحقيق، وأمروه أن يخلع ملابسه بكاملها أمام المحققين ثم
تركوه وحده عارياً، ترتعد كل عضلاته خوفاً من اقتياده للقتل،فكل الأسرى الذين
أطلقوا عليهم الرصاص أمامه كانوا عرايا.
فجأة
دخلت الغرفة فتاة يهودية ترتدي زي الجيش الإسرائيلي، ودون أن تلتفت إليه شرعت في
خلع ملابسها كلها، واقتربت منه في نعومة وطلبت منه بالعربية أن يتلطف. ومن فتحات
سرية كانوا يلتقطون له صوراً بمختلف الأوضاع وهو يتهرب منها محاولاً الانزواء،
بينما هي لا تكلف عن إغوائه ومطالبته. ومرة أخرى حاوره المحقق كثيراً واستفزه
وأجبره على أن يسب بلده وقائدها، ولسابق معرفتهم بأسماء أهله وأقاربه ووظائفهم
وعناوينهم... كانوا يزيدون الضغط على أعصابه مهددين بإيذائهم، في عملية "غسيل مخ"
له ولغيره، ويستخدم الضباط الاسرائيليون التنويم المغناطيسي، والايحاء النفسي
والامصال والعقاقير الطبية ومنها حقن "الصدق" وجهاز كشف الكذب، فضلاً عن التعذيب
الجسماني بوسائل مختلفة، وإطلاق حرب معنوية شرسة لزلزلة عقيدته وعروبته.
لقد تم
سجنه في زنزانة ضيقة تتسع بالكاد لجسده المنهك، وسلطت عليه كشافات كهربائية قوية
ليل نهار، مع انبعاث موجات من الهواء الساخن تارة والبارد تارة أخرى، وذلك لمدة
ستين يوماً وهو عار تماماً لا يدرك الليل من النهار، أو متى تجيء لحظة النهاية؟
بينما صوت المذياع لا يكف عن بث الدعاية المسمومة، والنصائح الموجهة اليه لكي
يستسلم ويتعاون مع ما يسمى بـ "منظمة السلام" ويفرغ ما في جعبته من معلومات وأسرار
للمحققين، مع تأكيدات مكررة بالاهتمام به صحياً ومعنوياً إذا ما استجاب لهم مع
الوعد بأن يغدقوا عليه بالأموال والميزات التي لا تخطر بباله.
وبعد هذه
الجرعة من الإغراءات قد يسقط الأسير مستسلماً، وقد يتماسك أكثر وأكثر لإيمانه
بقضيته وبقيادته، فيقاد إلى غرفة "العمليات" حيث يجري إدخال خرطوم دقيق في جهازه
البولي ينتهي طرفه بكيس شفاف، ويترك هكذا في زنزانته، ويمنع عنه الماء، وتسلط عليه
الكشافات الحارقة من جديد مع الهواء الساخن، فينزف عرقه ويكاد يموت عطشاً فلا يجد
سوى بوله فيشرب منه.
هناك
أيضاً وسيلة أخرى لإجبار الأسير على الانخراط في سلك الجاسوسية تحت زعم الاشتراك في
"منظمة السلام" لوقف الحرب بين العرب وإسرائيل، ألا وهي تكبيله بالجنازير وسلاسل
الصلب المدببة، وعصب عينيه بعصابة سوداء، والحبس في زنزانة منفردة معزولة صوتياً عن
العالم الخارجي لمدة أسبوع، فيكاد الأسير أن يجن، وينقل إلى غرفة التحقيق ليروا هل
استسلم مقهوراً أم لا يزال صلباً لا يخاف الموت؟ فإن رأوا فيه صلابة فعندهم من
وسائل التعذيب ما يكفي.
ويتم
تصنيف الأسرى المطلوب تجنيدهم إلى مجموعات، والمجموعة التي يعتقد أنها الأسهل
انقياداً... تتابع معها المحاولات من جديد وبصور أخرى من التعامل، ويتم عرض الأسير
على أخصائيين في وسائل الإقناع والتأثير النفسي يصلون به ومعه إلى مرحلة من
"الهدنة" التي يعقبها أحد أمرين: إما الاستمرار معه، أو تركه لحاله وعدم إضاعة
جهدهم معه أكثر من ذلك.
يقول
الملازم أول عبد الفتاح عبد العزيز عوض:
في الزنزانة الانفرادية الضيقة... كنت عارياً منهكاً معصوب العينين مكبلاً
بالجنازير، طعامي قطعة خبز جافة كل عدة أيام مع نصف كوب من الماء، كنت لا أكف عن
التفكير في حالي وما سيؤول اليه مصيري المجهول. وكلما استحضرت صور أهلي من
ذاكرتي... اتخيل حزنهم الشديد لفقدي فأتماسك، كثيراً ما كنت أستمد قوتي من صورة
أمي، ونظرة الرجاء في عيني حبيبتي ياسمين ترجوني ألا أنساها... ، كنت أبكي حالي فلا
تسقط مني دمعة واحدة، فالجسد الهزيل فقد ما به من ماء. وجفت المدامع ونضب معينها،
وتصورت للحظة أنني بين أحضان أهلي وأصدقائي، لكن أوهام الخيال كانت لا تطول،
فالواقع كان أقسى من أي تخيل، واقع قضى على لذة أحلام يقظة، ووأد الآمال في مهدها،
الأسابيع طويلة مريرة تمر والحال لا يتبدل... عطش وجوع وموت يتربص... وعواء ذئاب
تهوى افتراس أجساد الأسرى، وميكروفون يأتيني صوته من فوق راسي يذيع أغاني الحرب من
إذاعة "صوت العرب"، وبيانات كاذبة وخطب وتصريحات سياسية تصيبني بالغثيان. وتساءلت
مراراً:
هل يهتم بنا أحد؟؟
أجبت في نفسي :
لا أظن أننا على خريطة المسؤولين في مصر.
فقد طالت مدة الأسر، وصرنا نكرة ونسياً منسياً. وعندما يجيئنا أعضاء الصليب الأحمر
الدولي، يشفقون لحالنا ولا يملكون لأجلنا شيئاً