بنات
لبنان
كانت
بيروت في تلك الفترة تموج بالفن وبالانفتاح وبالحياة. إنها تختلف كلية عن سائر
العواصم العربية بما فيها عواصم دول المغرب العربي المتحررة . فهي أكثر تحرراً
وتحضراً. وصفعه إعلان غريب جداً في إحدى المجلات البيروتية لكازينو مشهور ... يعلن
عن وجود "كبائن" خاصة للزبائن .. لقضاء أوقات "الراحة" بعيداً عن عيون المتطفلين.
فترك حقائبه بحجرته ببنسيون "دعلون" بشارع بعلبك ... واستقل أول سيارة صادفته إلى
الكازينو.
هناك وجد
ضالته. فتيات شبه عاريات يتبخترن في دلال، قدودهن ممشوقة وضحكاتهن كأنها أغنيات
تصدح في ليل لبنان.
اقتربت
منه إحداهن فأغرقته بعطرها وجمالها في بحور من الأحلام والسحر ... وأغدقت عليه
بدلالها فيضاً من الرغبات تفاعلت بأعماقه... وقد تشوقت رجولته لطعم أنثى ... وجسد
أنثى... وصت أنثى ناعم كالنسيم... بعدما مقت رائحة البترول وجسدي جون وروبرت...
وكره تأوهات الذكر ... وبعد تعارف سريع سحبته إلى إحدى الكبائن التي تعمل بنظام "التايمر".
غرق شاكر
بين أحضان الحسان في بيروت مستهلكاً مدخراته التي وفرها في الكويت.. فالضياع الذي
توج حياته كان مدعاة لأن يحس بالخواء وينزلق إلى حالك في اندفاع غير محسوب ...
وثمالة تغشاه بلا روية .. وتصادف أن تعرف على فتاة اسمها "أوفيليا" قالت له أنها
يوغسلافية وإن كانت أمها في حلب.
كانت
أوفيليا ذات جمال يسبي العقول .. وأنوثة طاغية تربك عمليات الفكر .. وتسري بجسدها
البض دماء حارة تزيد من لسعات الرغبة. صادقته الفتاة ودارت به نهاراً بين جبال
لبنان .. وليلاً بمواخيرها حتى نفذت نقوده. فتركته إلى قبرص حيث تعمل في "لارنكا"
بإحدى شركات التجارة الدولية. ومن هناك اتصلت تليفونياً به ... وأطلعته على صعوبة
عثوره على عمل في قبرص وهو لازال ببيروت. فسافر إليها وأخذت تطوف معه أنحاء المدينة
بحثاً عن عمل له وباءت محاولاتهما بالفشل. فقال له مازحة: "ليس لك إلا اللجوء
لسفارة إسرائيل في نيقوسيا".
اندهش
شاكر لعبارتها وفوجئ بها تخبره بأن سفارة إسرائيل بالفعل ستحل مشكلته... كما حدث مع
آخرين أغلقت في وجوههم أبواب الرزق في قبرص. فرتبت لهم أعمالاً مختلفة تتفق
وميولهم، تأكيداً لنوايا إسرائيل الحسنة تجاه العرب. وعندما قال لها في استغراب: -
هل يعد هذا السلوك خيانة لمصر؟
ضحكت
عميلة الموساد وقالت في دلال:
Ø
أيها المغفل .. أنت خدمت في القوات الجوية في مصر. ولو أنك ذكرت ذلك للعاملين في
سفارة إسرائيل فسيحملونك على أعناقهم... لأنهم يريدون أصدقاء لهم في مصر على دراية
بأوضاع الجيش . ولكنك لا تصلح لأن تكون جاسوساً أيها "الأبله".
وضحك
شاكر وقال لها:
Ø
ولماذا لا أكون جاسوساً؟ إنني فشلت في كل حياتي ولم أفلح في أي عمل قط...
وفي
بنسيون "جونايكا" تمدد شاكر على ظهره... وسلط عينيه إلى نقطة وهمية بسقف الغرقة
وقال لنفسه:
Ø
نعم .. أنا إنسان فاشل .. منذ صغري وتطاردني الخيبة تلو الخيبة... حظي العاثر
أوقعني في شرك الشواذ الأمريكيين في الكويت .. وطردت من العمل لأنني رفضت أن أمثل
دور المرأة مع روبرت القذر. كنت أرحب بكوني "الرجل" والآن ... الآن ياليتني وافقت
على ألعب "الدورين" معاً طالما وافقت على الاشتراك في تلك المهزلة ... وها أنا أعيش
على "إعانة" من أوفيليا بعدما أبيعها رجولتي كل ليلة.. إعانة؟ ياليتها تكفي مصروفي
هنا .. إنها تمنحني بمقدار ما أنفقه لأعيش بالكاد. حتى رجولتي شح نبعها وجف معينها
أمام هذا النزف المستمر.
وقفز
شاكر من فراشه يضمر أمراً .. وسحب حقيبته من الدولاب وأفرغ بها ملابسه وغادر لارنكا
إلى الشمال حتى نيقوسيا العاصمة.
من فوره
قصد مبنى السفارة الإسرائيلية... وعلى الباب الرئيسي تقدم إلى موظف الاستعلامات
وسأله عن ضابط المخابرات في السفارة.. دهش الموظف وطلب منه إبراز جواز سفره ليتأكد
من جنسيته.. ورفع سماعة التليفون ولم تمض عدة دقائق إلا وكان بمكتب الضابط المسؤول
الذي سأله عما يريد بالضبط. فقال له شاكر أنه مر في حياته بظروف صعبة ... وعانى
كثيراً من جراء حظه السيء الذي صادفه في مصر والكويت... وأنه الآن لا يملك ثمن
تذكرة العودة إلى مصر ويريد أن "يبيع" لإسرائيل معلومات عسكرية هامة قد تحتاجها وفي
ذات الوقت إنه على استعداد للعمل معهم في المستقبل لإمدادهم بما يحتاجونه من
معلومات عن مصر ... بالمقابل، بل وحدد شاكر نوعية المعلومات التي يستطيع إمدادهم
بها بالتفصيل ... وهي معلومات تتعلق بالقوات الجوية التي خدم بين صفوفها لمدة
طويلة.
أصيب
الضابط بالدهشة وتركه يكتب بخط يده كل ما عنده من بيانات ومعلومات واستغرق شاكر في
الكتابة ستة ساعات استطاع أن يكتب خلالها اثنتي عشرة صفحة فولسكاب تضمنت كل ما
لديه. فطلب منه الضابط أن ينتظر بفندق واطسون حتى يستدعيه.
احتضان
خائن
لازم
شاكر حجرته بالفندق لمدة خمسة أيام ... اشتعلت بداخله أثناءها كل أنواع الظنون.
وكان لبقائه بمفرده طوال هذه الأيام الخمسة سبب لا يعلمه بالطبع .. فالمخابرات
الإسرائيلية لكي تدعم مدى صدق العميل الجديد .. تبحث في حياة العميل وشخصيته وتاريخ
حياته.. ويترك العميل لفترة ما يقطع فيها الاتصال به... وتتم في هذه الفترة أعمال
التحريات والمراقبة والتحليل للتأكد من صدق النوايا... وعندما استدعوه غمرته سعادة
كبيرة .. وأسرع إلى السفارة الاسرائيلية فاستقبله ضابط آخر اسمه "هيدار" وهو الضابط
المسؤول عن التجسس في "الجمهورية العربية المتحدة".
استعرض
معه هيدار تفاصيل ما جاء بتقريره. ولعدة ساعات أخرى خضع شاكر لامتحان صعب من الضابط
الإسرائيلي الذي تعامل معه بلطف شديد وقال له "مرحباً بك في سفارة بلد صديق" وعليك
أن تعلم جيداً أن الفن العسكري والسياسي .. يستقي قوته من المعلومات التي يوفرها
جهاز المخابرات الفعال في شتى الميادين في زمن الحرب أو السلم.
فالمعلومات المستقاة من قبل دوائر المخابرات هي أهم ما يعتمد عليه واضعو السياسة ..
والقادة العسكريون في كل دولة. تلك الخطط التي تكفل وتؤمن المفاجأة وإرباك العدو في
المجالين العسكري والسياسي .
ومن أهم
نجاحات رجال المخابرات ... ورود المعلومات في الوقت المناسب .. وبالقدر الكافي قبل
بداية الالتحام. وقياساً عليه ... فإسرائيل لا يمكن لها أن تخطط لأي عملية دفاعية
مع العرب .. إلا إذا تجمعت لديها كل المعلومات المطلوبة عن الدول العربية عامة ..
والدول المجاورة لها خاصة.
واضاف "هيدار"
بأن القسم الخاص بالدول العربية في المخابرات الإسرائيلية... قد انتهج مناهج عديدة
.. وطبق وسائل مختلفة لتحقيق انتصار دائم على العرب. وما حدث في يونيو 1967 هو نتاج
المعلومات الغزيرة ... التي تجمعت وتسربت من البلاد العربية عن طريق عملاء إسرائيل
المخلصين.
وأشد
هيدار بدور هؤلاء العملاء موضحاً لشاكر صراحة أن إسرائيل دولة مزروعة في قلب الوطن
العربي ... نتيجة لإرث قديم في أراضي فلسطين... وأن المخابرات الإسرائيلية لا تترك
عملاءها نهباً للمخاوف وللمخاطر .. بل تضحي بالكثير من أجلهم وتعمل جاهدة على
استردادهم بتشى السبل .. ولا تبخل عليهم بشيء طالما هم مخلصون لإسرائيل محبون لها.
وأكد
ضابط المخابرات المحنك ... أن الكثيرون يعتقدون بطريق الخطأ أن إسرائيل إنما تهدف
فقط إلى الحصول على معلومات عسكرية لها اتصال مباشر بالعمليات القتالية. ولكن
المعركة العسكرية تعتمد على نواح كثيرة جداً لا تقل أهمية عن القوات. بل لها الأثر
الفعال على كفاءتها مثل قدرة الدولة على الصناعة... وتوافر الطاقة الانتاجية،
والحالة الاقتصادية العامة للدولة، والحالة التموينية والاحتياطي العام والمخزون
السلعي.. ومدى تماسك الجبهة الداخلية وصمودها .. وقدرة الدولة ومدى استعدادها لظروف
الحرب.
كانت
الظروف النفسية السيئة مضافاً إليها الحاجة الماسة إلى المال سبباً مهماً في جلوس
شاكر فاخوري أمام ضابط الاستخبارات الإسرائيلي .. فقد جلس أمامه لأوقات طويلة وعلى
مدار أيام عدة كتلميذ ينتبه لإرشادت أستاذه ... وبرأسه تدور عشرات الأسئلة حول
معاناته... والمشكلات التي يمر بها ...
ووسوس له
الشيطان أن إسرائيل تعرف كل شيء عن مصر .. وأن المعلومات التي قدمها لن تقدم أو
تؤخر ... إنها مجرد معلومات عامة هامشية لا تحمل ضرراً ما لأمن وطنه.. أو تدينه
أمام الجهات الأمنية إذا ما انكشف أمره.
وظلت تلك
الأوهام تسيطر عليه حتى استحالت إلى حقيقة... يؤكدها ما كان يلقيه عليه هيدار بثقة
... واطمئنان.
لقد كانت
جل أمانيه أن يخرج من بوتقة الفقر .. ويعيش بمصر آمناً معيشياً لا يسأل أحد أو يمر
بضائقة مالية ترهق باله.
وأمام
رغبته الملحة في الإثراء السريع المريح ... ونقص الدافع الوطني .. إضافة إلى
الإغراءات الخيالية التي صبت في أذنية صباً... وتملكت منه ... وافق على أن يكون
صديقاً للعدو .. أميناً في إمداده بكل ما يطلب منه من معلومات أو مهام. هكذا دخل
شاكر برجليه وكر الجاسوسية راضياٌ قانعاً... غير عابئ بالعواقب أو نهاية الطريق
المظلم الحالك .. ووجدها رجال الموساد فرصة لا تعوض جاءتهم بلا تعب... فاستغلوها
وأجادوا تلقينه فنون اللعبة الخطرة ... وكانوا قانعين بأن من رضي باللعب مع
الثعابين فحتماً – سيلدغ شر لدغة.
استوعب
العميل الجديد مهامه التجسسية جيداً.. وامتلأت جيوبه الحاوية بأموال الموساد
القذرة. وحمل حقائبه إلى القاهرة لمدة شهر .. وعاد ثانية إلى قبرص وأبلغ الضابط
المسؤول بالسفارة الاسرائيلية بنتائج رحلته السريعة