مقدمة اليازجي
يقول راوي هذا الشرح ومتمّمه الفقير إليه عز وجل إبراهيم بن ناصيف اليازجي اللبناني: هذا آخر ما أثبت الرواة من شعر أبي الطيب المتنبّي، رحمه اللّه تعالى. وقد اخترتُ له أشهر الرّوايات وأمثلها بعد أن وقفت فيه على غير نسخةٍ من النّسخ الموثوق بها وبالغتُ في ضبطِه وتحريره ما أعان عليه الإِمكان والله ملهم السداد.
وكان أبي رحمه الله قد شرع في تعليق هذا الشرح على هامش نسخةٍ من الديوان بخطِّه كان يثبت فيها ما يعنّ له من تفسيرٍ أو إعراب أو شرح بيتٍ تذكرةً لنفسه مع ذكر كثيرٍ من وقائع النظم وتراجم بعض الممدوحين وغيرهم مما يسنح له في أثناء مطالعاته، إلا إنه لم يتقص في شيءٍ من ذلك ولا تتبع أبيات الديوان على التوالي وخصوصا المواضع المستغلقة التي تدعو إلى إطالة الرَّويَّة والاستنباط ممّا لم يرضِه كلام الشراح فيه، فإنه كان يتجاوزها في الأغلب ويترك موضع الكلام فيها مخرًّجاً على الهامش كأنه كان ينوي معاودة هذا الشرح والتوفّر على إتمامه، ثم لم يُفسح له في الأجل فبقي الشرح على علاًّته.
ومعلومٌ ما لهذا الديوان من الشهرة الطائرة بين خاصًّة الناس وعامًّتهم لكثرة ما فيه من موارد الحكمة ومضارب الأمثال الشائعة على الأقلام والألسنة مع ما هو مشهور في شعر المتنبّي من عَوَص التراكيب وبُعد مُتناوَلِ المعاني، ومع قلّة ما في أيدي الناس من شروحه على كثرتها وعزّة الظّفر بالمحكَم منها كشرح الواحديّ ومَن في طبقته. ولذلك اشتدًّت حاجة المتأدبين والدًّارسين في هذا العصر إلى شرحٍ يُعتَمَد عليه في استخراج مكنونه والكشف عن غامضِه، وكَثُرَ تقاضي الناس لهذا الشرح الذي ذكرتُه عندي وأنا أدافع في الإجابة لعلمي بأنّ نشرَه على الحدّ المُشار إليه غيرُ جديرٍ بأنّ يتلقَّى هذه الحاجة بقضائها لوقوفه في كثير من المواضع من دون مبلغ الطلب وتفاوت الحال فيه بين موضع وآخر بحيث لا يجمل ظهورُه على صورته تلك إلى أن لجَّ الداعي ولم يبقَ في قوس الاعتذار منزع، فاستخرتُ الله سبحانه في تولّي إتمامه وسدِّ ما بقي من خلِله على نحو ما تسعُه الطاقة ويبلغ إِليه العلم القاصر، وتابعتُ الكلام على بيتٍ بيتٍ بما تقتضيه الحال من تفسير غريبه وإعراب المشكل من تراكيبه، وقد تتبعتُ الغريب في الأبيات كلّها من غير استثناء - وربما تكررت اللفظة الواحدة مراراً في الديوان ففسرتها في كل موضع وردت فيه - ليكون كلّ بيتٍ مستقلا في تفسيره لا يُحتاج معه إلى مراجعةٍ أو كدّ ذاكرة، واستقصيتُ في الإعراب بحيث لم أدع مشكلاً يتوقّف عنده البصير إلاَّ تلقيته ببيانه خصوصًا إعراب الظروف؛ فإنها من أصعب العقبات التي تعترض في وجوه المعربين لخفاء وجه الإعراب فيها ولكثرة ما يتعاورها من التقديم والتأخير على ما هو معلوم من توسّعهم في الظروف، وذكرتُ معنى كلّ بيت على عقب الفراغ من مفرداته ملتزمًا في الأكثر أن أشرحَه بحلّ ألفاظه عينها بحيث أصوّر للطالب المعنى الشِّعريّ في ضمن المعنى التركيبّي وفي جميع ذلك من النَّصَب وإعمالِ الرويّة ما لا يخفى على الخبير.
وإنما أبقيت عنوان الشرح باسمه رحمه الله تعالى رعايةً لكونه هو الواضع الأصيل، فلم أُؤثر أن أتطفَّلَ عليه في نسبة الكتاب وإن تطفَّلتُ عليه في التأليف. وإني لأرجو الله أن يكون قد وهبني السلامة في ذلك كلِّه وأنزلَني من هذا الشرح منزلةً توجب استدرار الرحمة على واضعه ولا تكون مدرَجَةً لنقض برّي به بأن أجرَّ عليه تَبِعَةً تلزمني دونه أو يُنسب إليَّ فضلٌ هو أحقُّ به مني ومعاذ الله أن أدعي لنفسي في جنبه فضلاً أو علمًا فإني إنما اهتديتُ بمنارِه واقتديت بآثاره وإنه لا علم لي إلا ما علَّمني.
ثم إنه لما كان لكلّ مقامٍ مقال وكان الشّعر من أوسع الكلام مذهبًا وأجوَله مركبًا يطأ بصاحبه من المسالك الشعاب والفجاج ويرد به من المناهل العِذاب والأجاج لم يكد شعر شاعرٍ يخلو عما لا يحلو مذاقُه ولا يحسنُ في كلّ حالٍ مساقُه. ولا جرم أنّ أبا الطيَّب رحمه الله لم يكن يتوقع أنّ قصائده ستصير كتاب علم يُفسح له موضعٌ في مجالس الطلب ويتخرج عليه في النحو واللغة وسائر فنون الأدب، فأطلقَ عنان قريحته وراء كلّ غرضٍ بما يوصلُه إليه ويقع به عليه. ولذلك فقد ورد في بعض أبيات هذا الديوان من اللّفظ البارز عن ظلّ النزاهة ما لا يبيحه أدب المجالس ولا يجمل إقراؤُهُ في حلقات المدارس. فلم يكن لي بدٌّ من اطِّراح ما جاء كذلك فيه ليكون موردُه سائغا لكلّ مريد ولا يكون قليلُه مما لا فائدة فيه عَقَبَةً في سبيل ما فيه من الكثير المفيد. وكان في جملة ما اطّرحتُه قصيدتان إحداهما القصيدة الميميّة المشهورة في هجاء ابن كيغلغ، وقد أشرتُ إليها في موضعها، والثانية القصيدة التي هجا بها ضبَّة بنُ يزيد العتبيّ وسيأتي ذكرها. وإنما أهملت هاتين القصيدتين من أصلهما لأني التزمتُ عند حذف بعض الأبيات مراعاةَ اللُّحمة بين طرفَي الباقيٍ بحيث لا أقطع بين الأبيات ولا أترك موضعاً يُشعَر منه بأنّ هناك حذفا حرصًا على القصائد المحذوف منها أن تتشوه، ولذا كنتُ إذا اضطُررتُ إلى إسقاط بيت ووجدتُ الذي بعده أو الذي قبله لا يلتئم مع الباقي أسقطتُ معه بيت آخر - ولم يقع لي ذلك إلا في ندور. فلما أفضيتُ إلى القصيدتين المُشار إليهما وجدتُ أنّ ما يلزمني حذفه كثير ولا يتفق عند كل محذوف بقاء اللُّحمة وإلاَّ تعيَّن علي أن أترك كثيرًا من جيّد الأًبيات ومشهورها فأغفلتهما من متن الديوان على أن أذكر السائغ منهما في هذا الموضع متحاميًا التقطيع بين الأبيات ما أمكن، ولو بإحالة بعضها عن مواضعها تفاديًا بأيسر الخطبين.
والقصيدة الأولى منهما هي قوله
عَرَضًا نَظَرتُ وخِلْتُ أنّي أسلَمُ _________________________
لِهَوَى النفوسِ سرِيرَةٌ لاتُعلَمُ _________________________
ويروى لهوى القلوب . والسريرة السرّ . وعرضًا أي فجأةً واعتراضًا عن غير قصد وهو منصوبٌ على الحال . وخلت حسبت . يقول سر الهوى مجهولٌ لا يُدرى كيف يدخل قلب العاشق ، ثم قال : إنّي نظرت عن غير قصد يعني إلى المحبوبة فعشقتها من حيث لم يجرِ حبها بخاطري وكنت أظن أني أسلم من هواها .
يا أُختَ مُعتَنِقِ الفَوارِسِ في الوَغَى _________________________
لأًخـوكِ ثَم أَرَقُّ مِنْكِ وأَرْحَـمُ _________________________
الوغى : الحرب . واللام من قوله لأخوكِ للابتداء . وثم هنالك .
وللشراح في هذا البيت أقوالٌ أقربها ما ذكره ابن فوزجّة ومحصله أنه يمدح أخا المحبوبة بالشجاعة وأنّها من قومٍ أشداء أهل حرب وجلادُ . يقول : أنتِ قاسية القلب وأخوكِ على بسالته إذا لقي عدوا في الحرب كان أرق على عدوّه وأرحم منكِ على العاشق .
راعَتْكِ رائِعَةُ البيَاضِ بمَفْرِقي _________________________
ولَو أنها الأولَى لَراعَ الأَسحَمُ _________________________
راعتك : خوَّفتكِ . ورائعة البياض الشعرة البيضاء تروع الناظر . وروى ابن جنيّ راعية البياض وهي أول ما يشيب من الشعر . والمفرق وسط الرأس حيث يفترق الشعر . ويروى بعارضي وهو صفحة الوجه . والأسحم : الأسود . يقول راعتكِ الشعرة البيضاء التي ظهرت في رأسي لأنّ بياض الشعر يدلُّ على الكبر ولو كانت هذه الشعرة هي الأولى أي لو أنّ الشعر يكون أولاً أبيض ثم يسود عند الكبر لراعك الشعر الأسود . يريد أنّ الشيب لا يكون دائمًا دليل الكبر فبياض الشعر وسواده سواء .
لَو كانَ يُمْكِنُني سَفَرْتُ عَنِ الصِّبَى _________________________
فالشَّيْبُ مِنْ قَبلِ الأَوانِ تَلَثُّم _________________________
اسم كان محذوف دلّ عليه ما بعده أي لو كان السفور عن الصبى يمكنني وهذا الحذف يكثر بعد أفعال القدرة والإرادة وما إليهما وهو في مقام الشرط أكثر . وسفرت من سفور المرأة إذا كشفت عن وجهها . يريد أنّه مع شيبه حدث السنّ ولكنّ الشيب ألقى عليه منظر الكبر فكأنّه قد ستر شبابه . يقول : ولو أمكنني لكشفت عن شبابي بإزالة الشيب الذي يستره لأنّ الشيب قبل أوانه كاللثام الذي يتنكر به منظر المتلثمُ
يقَقًا يُميتُ وَلا سَواداً يَعصِمُ
اليقق : الأبيض . ويعصم يقي . يعني أنّ حوادث الدهر تنال الكبير والصغير فلا يكون بياض الشعر سببًا للموت ولا سواده واقياً منه لأنّ الأمر كثيراً ما يقع على الخلاف .
والهمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافةً _________________________
ويُشِيبُ ناصِيَةَ الصِّبيِّ ويُهرِمُ _________________________
يخترم : يهلك ونحافةً مفعول له . والناصية شعر مقدّم الرأس .
يشير إلى علّة مشيبه يقول : إنّما غيَّرني الهمّ فإنّه إذا استولى على الجسيم هزله حتى يهلك من النحافة وقد يشيب به الصبيّ ويصير كالهرم من الضعف والعجز .
ذُو العَقْلِ يَشْقى في النَّعيمِ بِعَقْلِهِ _________________________
___________
وأَخُو الجَهالَةِ في الشقاوَةِ يَنْعَمُ _________________________
في النعيم وفي الشقاوة حالان من الضمير في الفعلين . وبعقله صلة يشقى .
يقول : العاقل يشقى بعقله وإن كان في نعيمٍ من الدنيا لتفكره في العواقب وعلمه بتحوُّل الأحوال والجاهل ينعم وهو في الشقاوة لضعف حسه وقلة تفريقه بين حالٍ وحال .
وَالناسُ قد نَبَذُوا الحِفاظَ فَمُطلَقٌ _________________________
يَنسى الذي يُولَى وَعافٍ يَندَمُ _________________________
النبذ : الطرح . والحفاظ أي المحافظة على الحقوق . ومطلقٌ مبتدأ محذوف الخبر أي فمنهم مطلق . وأولاه كذا أنعم به عليه . والعافي من العفو عن الذنوب .
يقول : الناس قد تركوا رعاية الحقوق وعرفان النعم فينسى المطلق من الأسر إحسان مطلقه ويندم الذي يعفو عن المسيء لما يرى من كفران صنيعته .
لا يخدَعَنّكَ من عَدُوّ دَمعُهُ _________________________
وارحَم شَبابَكَ من عَدُوٍّ تَرْحَمُ _________________________
يقول : لا يخدعك بكاء العدوّ في الاستعطاف أي لا ترحمه ولكن ارحم نفسك منه لأنك إن رحمته وأبقيت عليه لم تأمن غدرهُ .
لا يَسلَمُ الشرف الرفيعُ مِنَ الأَذى _________________________
___________
حَتى يُراقَ على جوانِبهِ الدَّمُ _________________________
يراق : يُسفك . أي لا يسلم للشريف شرفه من أذى الأعداء والحساد حتى يسفك دماءهم فيأمن بقتلهم ويتحاماه غيرهم . ___________
يؤذي القَليلُ مِنَ اللئامِ بِطَبعِهِ _________________________
___________
مَن لا يَقِلُّ كما يَقِلُّ ويلْؤُمُ _________________________
القليل هنا بمعنى الخسيس . وبطبعه صلة يؤذي . وضمير الفعلين الآخرين للقليل . يقول : الخسيس مطبوعٌ على أذى الكريم الذي لا يشاكله في الخسة واللؤم للتنافي بينهما . ___________
والظُّلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإن تجد _________________________
ذا عِفَّةٍ فلِعلَّة لا يَظْلِمُ _________________________
الشيم : الطباع . ويروى في خلق النفوس .
يقول : نفوس الناس مطبوعة على الظلم لاستيلاء الهوى عليها فإن وجدت فيهم من يعفّ عن الظلم فلسببٍ كالعجز والخوف ونحوهما . ___________
ومن البَلِية عَذْل مَن لا يَرْعَوِي _________________________
عن جَهْلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفْهَمُ _________________________
العذل : اللوم . ويرعوي يكفّ ويقلع . ويروى عن غيِّه وهو خلاف الرشد .
ومنها في ذكر المهجوّ
يَقلَى مُفارَقَةَ الأكُـفِّ قَذالُهُ _________________________
حَتى يَكادَ على يَدٍ يَتَعَمَّمُ _________________________
يقلى بفتح اللام وكسرها يبغض . والقذال مؤخر لرأس وهو فاعل يقلى ويجوز أن يكون مفعول المفارقة وفاعل يقلى ضمير المهجوّ . أي إنّ قفاه يكره مفارقة الأكفّ لأنه قد أَلف صحبتها في الصفع فيكاد يتعمم على إحدى يديه لئلا يخلو قفاه من كفّ .
وجفُونُهُ ما تَستَقِرُّ كأَنَّـها _________________________
مَطْروفَةٌ أَو فُتَّ فيها حِصْرِمُ _________________________
طرف عينه إذا أصابها بشىء فدمعت .
يقول : أجفانه أبدًا تتحرك فلا تستقرّ . قيل كان ذلك عادةً غلبت عليه فيعيّره بها وقيل كان داءً به لأنّ عينيه كانتا تدمعان أبدا فلا يفتر من تحريك أجفانه وعلى هذا حمل بعضهم قوله فيه : واسحق مأمونٌ على من أهانه ولكن تسلى بالبكاء قليلاً
وإِذا أَشارَ مُحَـدِّثًا فكأَنهُ _________________________
قِرْدٌ يُقهقِهُ أَو عَجوزٌ تَلْطِمُ _________________________
يريد أنّه ألكن اللسان فإذا حدّث شنج وجهه وأشار بيدِه لأنه لا يقدر على البيان فشبّه حديثه بضحك القرد وجعل إشارته في حديثه كلطم العجوز إذا ولولت .
وتَراهُ أَصغَر ما تَراهُ ناطِقًا _________________________
ويَكُونَ أكذبُ ما يَكُونُ ُويُقسِمُ _________________________
ما الداخلة على الفعلين مصدرية . وناطقًا ويقسم حالان وأراد وهو يقسم فحذف كما في قولهم قمتُ وأصكُّ عينه أي وأنا أصكُّ . وأصغر وأكذب يرويان بالنصب على أنّهما معمولان للفعلين قبلهما وزعم بعضهم أنّهما هنا في موضع المفعول المطلق على أن ترى من رؤية العين فهي متعدية إلى واحد ويكون تامة فلا خبر لها والتقدير تراه ناطقاً رؤيةً أحقر رؤيتك إياه ويوجد وهو مقسم وجودًا أكذب وجوده . انتهى محصلاً وفيه من التعسف ما لا يخفى وأقلَّ ما يقال فيه أنّه لو سقط العامل اللفظيّ بأن قيل هو أصغر ما تراه ناطقًا لتقوض هذا البناء من أصله . والأظهر أن أفعل في الموضعين مرفوع على الابتداء وسدّت الحال بعده مسدّ الخبر والجملة في محل نصب بالناسخ لأنّها في الأصل خبر ابتداء كما في قولك هند أحسن ما تراها أو أحسن ما تكون سافرةً فلمّا دخل الناسخ عمل في المبتدأ الأول لفظًا وفي جملة الخبر محلا كما تقول رأيت هنداً أو كانت هند أحسنُ ما تكون سافرةً . فتأمل . والمعنى تراه أحقر ما يكون إذا نطق لأنّه ألكن أو لأنّه ينطق بغير معقول وهو أكذب ما يكون إذا حلف أي حين يكون الصدق عليه أوجب .
والذُّلُّ يُظْهِرُ في الذَّليلِ مَوَدَّةً _________________________
وأَودُّ مِـنْـه لِمن يَـوَدُّ الأَرقَـمُ _________________________
أودّ : خبر مقدّم عن الأرقم وهو ضربٌ من الحيات فيه سواد وبياض . وفاعل يودُّ ضمير الذليل والعائد محذوف أي يودّه . أي إنّ الذل يحمل صاحبه على إظهار المودّة لمن يبغضه لأنه يعجز عن مجاهرته بالعداوة على أنّ الحية مع ما هو معروفٌ فيها من الخبث والتعرُّض لعداوة من لا يؤذيها أدنى إلى مودّة من يظهر الذليل مودّته .
ومِنْ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفْعُهُ _________________________
ومِن الصداقَةِ ما يَضُر ويُؤْلمُ _________________________
أراد بالنفع هنا ما هو أعمّ منه يعني انتفاء الضرر والبيت مبني على الذي قبله أي إنّ عداوة الذليل الذي يطوي كشحه على البغض ، تظهر ما أضمر من الخبث فتنفع من يعاديه بأن يطلع على دفينته ويحذر جانبه ، وبعكسها صداقته فإنّها قد تكون سبباً يتوصل به إلى أذاه لأنّه يساتره العداوة ويتربّص به نهزةً للغدر .
ومنها يتخلّص إلى مدح أبي العشائر
فلَشَدَّ ما جاوَزْتَ قَدْرَكَ صاعِدًا _________________________
ولَشَدّ ما قَربَتْ عَلَيكَ الأنجمُ _________________________
شدَّ بمعنى ما أشدَّ واللام قبلها للتوكيدُ وما مصدرية . يقول ما أشدَّ ما تجاوزت قدرك في طلبك المديح منّي وما أشد ما قربت الأنجم عندك فطمعت في نيلها وأراد بالأنجم أبيات شعره .
وأَرَغتَ ما لأَبي العشائر خالِصًا _________________________
إِن الثنـاءَ لِمَن يُزار فيُنعمُ _________________________
أَراغ الشيءَ طلبه . وأبو العشائر الحسن ابن حمدان وقد مر ذكره في الديوان وكان أبو الطيّب مسافراً في قصده فعرض له هذا الرجل في طريقه إليه وقد ذكرنا خبره في محلهُ .
يقول : طلبت المدح الذي هو حق أبي العشائر خالصاً له أي من غير منازعٍ فيه لأنّ الثناء يحقّ لمن يزار فينعم على زوَّارِهُ .
وَلمنْ أَقَمْتَ على الهَوانِ بِبابِه _________________________
تَدنُو فيُوجَأُ أخدَعاكَ وتُنهَم _________________________
تدنو تقرب . ويوجأ يلطم . والأخدعان عرقان في العنق . والنهم الزجر الشديد . أي وإنّ الثناء لمن تزلفت إليه فأقمت ببابه ذليلاً يُضرَبُ أخدعاك أي تُصفَع هزؤًا واستخفافاً ثم تزجر مطروداً من الحضرة .
وَلمنَ يُهينُ المالَ وَهْـوَ مُكَـرَّمٌ _________________________
ولِمَن يجُرُّ الجيَش وَهْوَ عَرَمْرَمُ _________________________
العرمرم الكثير . أي ولمن يهين المال ببذله على القصاد حالة كون المال مكرّمًا أي نفيسًا وهو ملكٌ يجرُّ الجيش الكثير .
وَلمنْ إِذا التَقَتِ الكُماةُ بمَأَزِقٍ _________________________
فنصيبُهُ مِنها الكمِيُّ المُعْلِمُ _________________________
الكماة جمع كميّ وهو البطل عليه السلاح . والمأزق المضيق . والمعلم الذي جعل لنفسه علامةً في الحرب .
ولَـرُبَّمـا أَطَرَ القَنَاةَ بفارِسٍ _________________________
وثَنَى فقوَّمَها بآخَرَ مِنهُـمُ _________________________
أطر لوى . والقناة عود الرمح . وثنى أي عطف على استعمال الفعل لازمًا كما مرّ من قوله ثنت فاستدبرته بطيبٍ . أي ربّما طعن فارساً فأعوج الرمح فيه ثمّ طعن أخر فقوّمه . يشير إلى شدة طعنه وتواتره .
والـوَجهُ أَزهَرُ والفُؤادُ مُشيّعٌ _________________________
والرُّمْحُ أسمَرُ والحُسامُ ُمصمِّمُ _________________________
ال هنا نائبة عن ضمير الممدوح أي ووجهه وفؤاده وهلمَّ جرّاً والواو في أوَّل البيت للحال . والأزهر الأبيض المشرقُ . والمشيع الجريء . والحسام السيف القاطع . والمصمّم الذي يطبق المفاصل .
أَفعالُ من تَلدُ الكِرامُ كريمةٌ _________________________
وفَعَالُ مَن تَلِدُ الأعاجِمُ أَعْجَمُ _________________________
الفعال هنا مصدر . والأعاجم كل من ليس عربيّاً من أي جيلٍ كان .
يقول : فعل المرء يشبه أصله فمن كرمت أنسابه كرمت أفعاله ومن كان لئيم النسب ففعله أيضاً لئيم . والعرب تصف الأعاجم باللؤم ولذلك جعل الأعاجم في مقابلة الكرام وإنّما قال ذلك لأنّ هذا الرجل كان روميّا .
ومطلع الثانية قوله
ما أنْصَفَ القَومُ ضَبَّة _________________________
وأُمـه الطُّرْطُبَّـهْ _________________________
ضبة هو ابن يزيد العتبي ويروي العيني بالياء المثناة بعدها نون وكان فيمن كان مع الخارجي الذي نجم في بني كلاب وهو المشار إليه في القصيدة التي مدح بها دلير بن لشكروز بالكوفة .
وكان من قصة هذا الرجل أنّ قوماً من أهل العراق قتلوا أباه يزيد وسبوا امرأته أم ضبة وكان ضبة غدّاراً بكل من نزل به ، واجتاز به أبو الطيّب في جماعةٍ من أشراف الكوفة فامتنع منهم وأقبل يجاهر بشتمهم فأرادوا أن يجيبوه بمثل ألفاظه القبيحة وسألوا ذلك أبا الطيّب فتكلفه لهم على كراهة وقال هذه القصيدة وهو على ظهر فرسه .
يشير في هذا البيت إِلى قصته المذكورة والطرطبة المسترخية الثديين .
ومنها _________________________
وإِنما قلتُ ما قُلـ _________________________
تُ رَحـمَةً لا محَبَّهْ _________________________
أي إنما قلت ما أنصفوك رحمةً بك لما أَصابك من الذلّ والعار لا محبّةً لك وغيرة عليك ، يريد شدّة ما وصل إليه حتى صار بالرحمة أحقّ منه بالشماتة .
وحِيلَةً لَكَ حـتّى _________________________
عُذِرْت لو كُنتَ تَأبَهْ _________________________
لو هنا حرف تمنِّ وتأبه تفطن .
ويروى تيبه ، بكسر التاء ، مضارع وَبَه بمعنى أبه على لغة من يكسر حرف المضارعة . وروى الخوارزمي تنبه وهو بمعناه أيضًا . أًي وقلت ذلك حيلةً لك حتى يعذرك الناس فيما أصابك إذا سمعوا مقالي وعلموا أنّك مظلوم .
وما عَلَيكَ مِنَ القتـ _________________________
ـلِ إِنمـا هِـيَ ضَربَـهْ _________________________
ما في البيتين استفهام إنكار . وهي ضمير الشأن أخبر عنه بمفرد وقد مرّت له نظائر والسُبَّة العار يُسَبُّ به . يقول : ماذا عليك من قتلهم لأبيك وغدرهم به فإنّما القتل ضربةٌ تقع بالمقتول فيموت منها والغدر سبةٌ يتناقلها الناس وما على المسبوب شيء . أي أنت تقتل وتغدر وليس في القتل والغدر عندك إلا ما ذكر فلا يشتدّ موقعهما عليك .
وما عَلَيْكَ مِنَ الغَدْ _________________________
رِ إِنما هـي سُـبَّـهْ _________________________
يـا قاتِلاً كُـلَّ ضَيفٍ _________________________
غَنـاهُ ضَيْـحٌ وعُلْـبَهْ _________________________
غناه بالفتح ، أي كفايته ، وأصله المدّ فقصره . والضيح اللبن الممزوج بالماء . والعلبة قدحٌ من جلد يشرب فيه اللبن . يريد أنه لبخله إذا نزل به ضيف يقتله ليتخلص من القرى ولو كان ضيفه فقيراً يكتفي بقليل من هذا اللبن في علبة . كذا قال ابن فوزجة . ويجوز أن يكون المعنى أنّه لما طبع عليه من الغدر يقتل كل من نزل به ولو كان صعلوكًا لا مال معه يطمع فيه .
وَخَوْفَ كلّ رَفيق _________________________
أبَاتَكَ اللّيلُ جَـنبَهْ _________________________
خوف معطوف على قاتلاً .
والبيت في معنى الذي سبقه أي إذا بايته رفيقٌ في السفر لا يأمن أن يغدر به إذا نام .
كَذا خُلِقْتَ ومَن ذا الَّـ _________________________
ذي يُـغـالِب رَبَّـهْ _________________________
كذا حال . ومن ذا استفهام إنكار وذا هنا ملغاة مركّبة مع من تركيب ماذا .
يريد أنّ الله خلقه كذلك أي مطبوعًا على الغدر والدناءة فهو لا يزال على ما خلقه الله لا يقدر الناس على تغيره لأنّ الله لا يُغالبَ .
ومَـنْ يُـبـالي بِـذَمٍّ _________________________
إِذا تَـعـَوّدَ كَـسبَـهْ _________________________
فَسَـلْ فـؤادَكَ يا ضـ _________________________
ـبَّ أَيْنَ خَلَّفَ عُجْبَهْ _________________________
ضبّ ترخيم ضبةُ . وخلَّف الشيءَ تركه خلفه . والعجب الكبر .
يقول له : سل فؤادك أين ترك ما كان فيه من الكبر والتيه أي حين اختبأ منهم وامتنع بالحصن وهو يسمع الشتم فلا يخرج إليهم .
وإِن يَخنكَ فعَمْري _________________________
لَطالَما خـانَ صَحـبَهْ _________________________
عمري قسم وهو مبتدأ محذوف الخبر سدَّ مسدَّه جواب القسم . والصحب جماعة الأصحاب . يقول : إِن خانك فؤادك أي خذلك ولم يطاوعك على الإقدام علينا خوفًا ورهبًا فلست بأول صاحبٍ خانه لأنه تعود خيانة الأصحاب .
وكَيـفَ تَرغَبُ فيـهِ _________________________
وقد تَبَـينتَ رُعْـبَـهْ _________________________
يقول : كيف ترغب في فؤادكَ بعد هذا وقد تبينت ما هو عليه من الخوف عند الشدّة أي هو لا ينفعك فلا خير لك في صحبته .
ما كُنْتَ إِلا ذُبـابـًا _________________________
نَفَتْكَ عَنا مِذَبّـهْ _________________________
المذبّة ما يطرد به الذباب .
ويروي عنه والضمير للقلب أو للعجب ولعلّ الرواية الصحيحة ما ذكرناه .
يريد أنّه انهزم منهم بمجرّد الخوف فشبهه لجبنه بالذباب وشبّه ما غشيه من خوفهم بالمذبّة التي يهوَّل بها على الذباب فيهرب .
وإِنْ بَعُدْنا قَليلاً _________________________
حَـمَلْتَ رُمحاً وحَرْبَهْ _________________________
أي إذا بعدنا عنك فأمنت عدت إلى عجبكَ فحملت السلاح وهذا مثل قوله : وإذا مـا خـلا الجبـان بـأرضٍ طلب الحرب وحده والنزالا _________________________
وقُلْتَ لَيتَ بِكَفّـي _________________________
عنـانَ جَرْداءَ شَطْبَهْ _________________________
العنان سير اللجام . والجرداء من الخيل القصيرة الشعر . والشطبة الطويلة .
إِن أَوْحَـشَتْكَ المعَالي_________________________
فـإِنـهـا دارُ غُـرْبَهْ _________________________
أو آنـسَـتْكَ المَخازي _________________________
فـإِنـهـا لكَ نِسْبَـهْ _________________________
المخازي جمع مخزية وهي الفعلة القبيحة يذلّ صاحبها . أي إذا استوحشت من المعالي فلا عجب لأنّك غريبٌ عنها وكذلك شأن الغريب وعلى عكسها المخازي فأنّك تستأنس بها لما بينك وبينها من النسب . وأراد ذات نسبة فحذفت كما يقال هو قرابتي وكلاهما من استعمال المولدين .
وإِنْ عَـرَفـتَ مُـرادِي _________________________
تَكَشَّفَـت عَنـْكَ كـُرْبَهْ _________________________
وإن جَـهِـلـتَ مُـرادي _________________________
فـإِنـهُ بِـكَ أشبَهْ _________________________
الضمير من أنّه يعود على المصدر المفهوم من الفعل المتقدم يعني الجهل . ويروى لك أشبه . يقول : إن عرفت مرادي زال عنك ما تجده ومن الكرب بجهلك ما أقول وإن جهلت مرادي فالجهل أشبه بك وأليق بحالك لأنّك لست ممن يفهمون .
وممّا حذفتُه أيضًا قطعة هجا بها وردان الطائيّ أوّلها: "لحى الله وردانًا وأُمّـًا أتت به". وهي خمسة أبيات لا غير لم يسلم منها ما هو جدير بالإثبات فكان مجمل ما أسقطتُه من الديوان كلِّه لا يكاد يبلغ سبعين بيتاً منها نحو النصف من القصيدتين المتقدمتين، وليس هذا القدر اليسير بالقدر الذي يُعبأ به في جنب الديوان ولا سيما أنه بذلك قد سلمت محاسنُه مما يُشان وأتلفت جملتُه على الإحسان. والحمد لله أني قد وُفِّقتُ في كل ما اطّرحته من الأبيات إِلى بقاء الكلام متتابعاً بعد الحذف ولم أضطرَّ إلى تبديل شيءٍ من الألفاظ إِلاَّ في أربعة أبيات لم يقع لي حذفها لتوقف المعنى على بعضها وضنيّ بالبعض الآخر لحسنِه. أحدها قوله:
أَوطأْتُ صُم حصاها خف يعملةٍ _________________________
تغشمرت بي إليك السهلَ والجبلا _________________________
والثاني قوله يذكر ناقته _________________________
وتعذرُ الأحرار صيَّر ظهرها _________________________
إلاّ إليك عـليَّ ظـهرَ حـرامِ _________________________
والثالث قوله _________________________
ولا عفّة في سيفِهِ وسنانِهِ _________________________
ولكنَّها في الكفّ والطرف والفمِ _________________________
والرابع قوله _________________________
وكان أطيب من سيفي معانقةً _________________________
أشباه رونقِهِ الغيدُ الأماليدُ _________________________
وقد أتيت فيما عدا البيت الثالث بما هو من مرادف اللفظ المبدل منه ولا يخرج عن ذلك ما في البيت الثاني. فإِنَّ الترادف يأتي من طريق الكناية وهو اصطلاح قديمٌ معروف. على أني ويشهد الله لم آتِ شيئًا من ذلك إلا متكرِّها إذ ليس للراوي أو الشارح أن يتولى مقام الناظم في الاختيار والتبديل، وإنما نحن المؤتَمنون على ما استخلفنا عليه المتقدِّمون نؤدّيه كما بلغ إلينا وننصفهم من أنفسنا كما نودُّ أن ينصفنا مَن يجيء بعدنا، ولكن كذا اقتضت المصلحة. ومَنِ اعتبر طَرَفَي صنيعي وغايته اغتفر ما أقدمت عليه من هذا التصرف اليسير فيما توخّيته بعده من النفع الكبير. وبعدُ فلست أنا أوّل مَن تَحَرّج من ذكر ما تأباه النفوس النزيهة بل قد نُقل عن المتنبِّي نفسه أنه كان إذا قُرِئَت عليه قصيدته في هجاء ضبة يتكرَّه إنشادها. وقد ذكر الواحدي ذلك عنه عندما انتهى في شرحهِ إلى هذه القصيدة. ثم قال: وأنا أيضاً والله أكره كتابتها وتفسيرها ولست أرويها إنما أحكيها على ما هي عليه وأستغفر الله تعالى من خطّ ما لا يُزلِف لديه اهـ. قلتُ: إذا لم يكن من الاستغفار بدٌّ فهو من ترك ما لا يُزلِفُ أولى. والعجب من الواحديّ رحمه الله أنه مع ما رأيتُ من تحرّجه هنا وانقباضِه عن رواية هذه القصيدة وشرحها لم يجد من نفسه مثل ذلك عند شرحه للقصيدة التي هجا بها ابن كيغلغ فإنه رواها هنالك بغير نكير وأطلق عنان القلم في الشرح بما لم يبلغ إليه المتنبّي في هجاء ضبّة. فسبحان الواحد الكامل الذي لا تأخذه غفلة ولا يشغله شانٌ عن شان.
وقد بقي للمتنبّي غيرَ ما ذُكر قصائد ومقطعات تُروَى له عثرتُ على بعضها في بعض نُسَخ الديوان وعلى البعض الآخر في تضاعيف كتب الأدب. وقد مرَّ ذكر بعضٍ منها في الشرح وأنا أذكرها هنا برمّتها تيسيرًا لمطلبها وأذيلها بشرحٍ يكشف عن غامضها، وإن لم يتولَّها شارحٌ قبلي والله وليّ التوفيق.
وانتظروا المزيد