[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] اشتبك العقيد القذافي مع الحكومة السويسرية، التي كانت شرطتها قد احتجزت ابنه وزوجته للتحقيق معهما في شكوى ضدهما قدمها خادم للأسرة. وكما يحدث في أي بلد محترم؛ فإن الشرطة حققت في الشكوى وأطلقت بعد يومين سراح الابن هانيبال وزوجته لتستكمل الإجراءات القانونية بعد ذلك.
لكن هذه لم تكن نهاية القصة؛ لأنها تحولت بعد ذلك إلى عاصفة هوجاء خربت علاقات البلدين ومصالحهما؛ ذلك أن الأخ العقيد اعتبر ذلك مساساً بقدره، وجريمة لا تغتفر؛ فقرر أن يعاقب الحكومة والشعب السويسري؛ الأمر الذي أدى إلى وقف إمداد سويسرا بالنفط، وسحب مليارات الدولارات من بنوكها، ومنع شركة الطيران السويسرية من الهبوط في طرابلس. وذهب العقيد إلى أبعد حين طالب بتقسيم سويسرا وتوزيعها على الدول الأوروبية المجاورة. واعتبر أن بلاده في حرب مفتوحة ضدها. وإذا كان قد فعلها على هذا النحو مع سويسرا والسويسريين؛ فلك أن تتصور ما فعله بقبيلة الخادم الليبي الذي كانت شكواه سبباً في استدعاء ابن العقيد إلى الشرطة؛ ذلك أن المعلومات المتوافرة أشارت إلى أن القبيلة كلها تعرضت للاضطهاد والتنكيل، ودفعت ثمناً باهظاً جرّاء ما أقدم عليه ابنها.
ذلك كله لم يكن لنا شأن مباشر به. صحيح أنه لطخ سمعة العرب والمسلمين بالأوحال؛ لكن المشكلة ظلت بين العقيد والسويسريين من ناحية، وبين أجهزته وبين قبيلة الخادم -تعيس الحظ- من ناحية ثانية؛ إلا أن الرئيس الليبي أقحمنا في المشكلة مؤخراً، حين ألقى خطبة في مناسبة المولد النبوي دعا فيها إلى إعلان الجهاد ضد سويسرا "الكافرة"، التي صوّت الناس فيها ضد بناء مآذن المساجد، واعتبر كل من يتعامل مع هذه الدولة الكافرة بأي صورة من الصورة مرتداً وتاركاً للملة. وهذا الكلام إذا أُخذ على محمل الجد؛ فإنه يطالب المسلمين في كل مكان بمحاربة ذلك الكفر بكل الوسائل المتاحة.
ويبدو أن الأخ العقيد أصدر فتواه باعتباره إماماً للمسلمين في هذا الزمان. وهو اللقب الذي لم أكترث به يوماً ما، ولم أمانع فيه مادام سعيداً به سعادته بلقبيه الآخرين "ملك ملوك أفريقيا" و"عميد الحكام العرب"؛ إذ اعتبرت ذلك مشابهاً لقائمة الرتب والألقاب التي يهوى البعض حشدها والاحتماء بها من قبيل تأكيد الأهمية وإرضاء الرغبة في التضخيم والعلو فوق الآخرين، وهو ما نشهده في الإعلانات المدفوعة التي تحيي السيد اللواء الدكتور الوزير محافظ كذا. وما درج عليه الأقدمون حين كانوا يتحدثون عن العالم العلامة الحبر البحر الفهامة وحيد زمانه وسيد مكانه والمبرز بين أقرانه وخلانه، فلان الفلاني.
صدق الأخ العقيد من نصّبوه إمام المسلمين؛ فأفتى فتواه أثناء خطبته الحماسية، ثم نهض ومضى يحيي بكلتا يديه الجماهير التي صفقت له إعجاباً بغيرته على مآذن المساجد السويسرية، وغضبه على الشعب السويسري الكافر، وبطبيعة الحال فإن أحداً ما كان يجرؤ على أن يذكّر العقيد بأنه لم يعلن الجهاد حين انقضّ الإسرائيليون على غزة وحاصروها منذ ثلاث سنوات، ولا حين غزا الأمريكيون العراق، ولا حين سُحق المسلمون على أيدي الحكومة الصينية في تركستان الشرقية، ولا حين تعرّض المسلمون في البوسنة للإبادة من جانب الصرب؛ بل إنه في موضوع سويسرا لم يتذكر الجهاد ولم ينتبه إلى كفرها إلا حين حظرت دخول 188 شخصاً من عائلته إلى أراضيها، وكان هو شخصياً على رأس القائمة.
لا يحتاج المرء إلى ذكاء أو بذل أي جهد لكي يدرك أن العقيد القذافي أراد بإعلان الجهاد أن يكيد للسويسريين، وأن يستنفر ضدهم المسلمين؛ بحيث يشعرهم بأن مصالح الأولين في خطر، ليس مع ليبيا فقط، ولكن مع العالم الإسلامي بأسره. أما علاقة ذلك الكيد بالنقمة التي استشعرها إزاء الحكومة السويسرية جراء التحقيق مع ابنه واحتجازه في قسم الشرطة؛ فهي مما لا يحتاج إلى برهان أو إثبات.
إن فتوى العقيد لم تكن لوجه الله؛ لأنه طالبنا بأن نجاهد دفاعاً عن كرامة ابنه، وإرضاء لرغبته في الانتقام من الحكومة السويسرية. ومن ثم فإنه قدم نموذجاً فجاً لتدخل السياسة في الدين، في حين أن البعض يشكون من العكس، إنه جهاد كيديّ مغشوش، يذكّرنا بقول الشاعر: إن رام كيداً بالصلاة مقيمها؛ فتاركها عمدًا إلى الله أقرب.