[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] يجلس الشاب "جوني" بشعره الأشقر وعينيه الملونة يرتدي تيشيرت وبنطلون جينز، في الملهى الليلي الذي تتراص فيه زجاجات الخمر، ويكثر الراقصون والراقصات في مشهد معتاد، وبعد فترة تدخل الفتاة "لورا" ترتدي فستانا يكشف أكثر ما يستر، فينظر لها "جوني" نظرة باردة، ثم يبتلع كأسا من البراندي.. فتجلس "لورا" ثم تنظر له بقلق، وتقول:
- "جوني" إيش بيج؟
فيجيبها الفتى بتثاقل واضعاً الكأس على المنضدة:
- تِعبان وايد لورا..
نعم هذا ما يحدث كل يوم.. تحوّل "جوني" بقدرة قادر إلى شاب خليجي، وتحولت "لورا" بقدرة نفس القادر إلى فتاة خليجية.. ومع كل ما يتبع ذلك من جرائم، فإن صانعي الدبلجة العربية للأفلام الغربية يستمرون في ارتكاب جرائمهم بحق الهوية العربية والثقافة العربية والخصوصية العربية الشرقية والبقاء لله..
قديما كانت الترجمة باللغة العربية الفصحى بمثابة توضيح لمعنى الحوار الذي يقوله البطل الأمريكي أو الهندي أو الياباني أو..... مع الحفاظ على الفواصل المجتمعية؛ فالترجمة تحافظ على خصوصية البيئة والثقافة والمجتمع..
غراميات جوني ولورا، وعصابات شيكاغو وحي هارلم، ومغامرات أبطال المارينز الأمريكيين في العراق وأفغانستان، هي أعمال تخص أصحابها وتتوافق مع مجتمعهم، وتقوم الترجمة بدور الوسيط لفهم هذه الثقافة المغايرة والإحاطة بها.. مع الاعتراف التام بدور هذا الوسيط في "الفصل" بين ثقافة المؤدي وثقافة المتلقي..
لكن ما الذي تفعله الدبلجة العامية الخليجية أو الشامية أو المصرية في الأعمال الفنية؟إنها تخلق واقعا سخيفا يضعك في الخلاط، فهذا الشاب الذي ينطق لسانه باللهجة السعودية أو الكويتية يتحدث عن مضاجعة صديقته، أو يقبل بأن تتقدم أخته للحفل مرتدية "ما لذ وطاب"، ويبتسم بابتسامة راضية وزوجته تقبّل الضيوف نفر نفر!!
هذه الطريقة في العرض لا بد أنها إما اعتراف بعجز قدرات مبدعينا عن محاكاة الإنتاج الغربي بصورة تحفظ الخصوصية الثقافية.. أو رغبة في خلق هذه الثقافات الغربية في مجتمعاتنا العربية..
فإذا افترضنا حسن النية وكانت الأولى، فلِماذا يقوم "الوسيط العاجز" بخلق هذه الحالة من الاندماج عن طريق تجاوز اللغة الرسمية، وممارسة ما يمكننا تسميته بـ"التطبيع" من خلال لهجات عامية تشعرك أنك في بيتك.. تجد الملهى الليلي والموديل العارية في بيتك، المسدسات التي تطلق النار عشوائيا وعصابات شيكاغو في بيتك، بطلك الخليجي يحيي العلم الأمريكي بكل انتماء في بيتك..
ربما بمتابعة خيوط شركات الدبلجة للأفلام الغربية بالذات يتضح ما يقطع الشك باليقين.. ولكن حتى مع افتراض حسن النية فمن المؤكد أن النتيجة الحتمية للدبلجة العامية هي عملية "عصير ثقافي" متعمدة، أو غير متعمدة..
رحم الله الترجمة.. كانت تنقل لك النص مع عدم إيهامك بأنه مجتمعك.. تؤدي دور المَعْبر للثقافة وتحول بينك وبين الاندماج معها.. تسهِّل لك اللغة وهي كل لحظة تهتف في أذنك أن "هذا هناك ولن يكون أبدا هنا".. مع ما فيها من إثراء لغوي وجزالة أسلوبية حقيقية..
أما الدبلجة الخليجي والشامي والمصري فخلت كله في الخلاط.. مما يجعلنا في مواجهة حقيقية مع شكل خطير من أشكال العولمة، يستهدف "عصرنا" وإياهم في خلاط واحد؛ لينتج العصير العالمي الشهي، ومن المعروف نكهة من هي التي ستتغلب بالتأكيد..
لمْ نعترض على الدبلجة الفصحى؛ لأنها تحافظ على نفس الحاجز بين الثقافات، وتنقل لك اللغة وكأن أحدا يقرأ لك.. ورغم ما فيها من إحساس ببرودة النص الذي يبدو معها وكأنه غذاء معلَّب، بدون مؤثرات صوتية، وبدون روح في الأداء، ولكنها كانت مع هذا تحفظ الفاصل الثقافي، أما الدبلجة العامية فهي -في رأيي- تستهدف الدماغ أكثر ما تهدف للإمتاع..
وقد تقبلنا الدبلجة العامية في الكرتون وأعمال الأطفال؛ لمناسبتها لعقولهم وتسهيل وصول المضمون لأذهانهم الصغيرة، وكذلك لعالمية النصوص وقلة الانخراط في تفاصيل المجتمعات..
وكذلك تقبلنا دبلجة الأعمال التركية أو الإيرانية بلهجاتنا العامية؛ لقرب الشبه الشكلي والأخلاقي والثقافي بين مجتمعاتنا العربية والمجتمع التركي أو الإيراني.. ولكن كيف نتقبل أن يتكلم "مستر بين" أو "إيشوريا راي باتشان" أو "بي يونج جون" بالخليجي والشامي والمصري.. ثم نطالب أبناءنا بأن يعرفوا أن هذا مختلف تماما عن مجتمعاتنا، وعليهم أن يعرفوا الاختلافات الثقافية والأخلاقية مع من يتكلمون بنفس لهجتهم وكأنهم منهم وعليهم..
أنا عن نفسي لا أريد أن يكون ابني هو "جوني"، ولهذا أصبر على عناء الترجمة، وأحيي بحرارة "معامل أنيس عبيد بالقاهرة"