[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] "لقد تميّز صلاح الدين الأيوبي بالطموح والإخلاص للمبادئ التي اعتنقها؛ بَيْد أن طموحه لم يكن لتحقيق آماله الشخصية -فقد مات الرجل فقيرًا- كما أن مبادئه كانت نابعة من إيمانه بالجهاد كوسيلة وحيدة لاسترداد الأراضي التي استوطنها الصليبيون القادمون من أوروبا وتحرير القدس والأقصى. وكان في ذلك كله بسيطًا في أخلاقه، واضحًا في رؤيته، حاسمًا في أداء دوره؛ لقد أدرك أن التشرذم والفُرقة والأنانية السياسية، التي وصمت حكام المنطقة العربية، هي التي أدت إلى انتصار الصليبيين وقيام المستوطنات الصليبية فوق الأرض العربية في فلسطين وبلاد الشام".
هكذا تكلّم عنه د. قاسم عبده قاسم -المؤرخ الشهير- في كتابه (في تاريخ الأيوبيين والمماليك). الناصر صلاح الدين الأيوبي اسم لا يمكن ألا تعرفه؛ فلقد انطبع في العقول والقلوب، حتى أصبح رمزاً وأيقونة للكثير من القيم المفتقدة في حياتنا الآن؛ فهو البطل الذي مدحه أهله، ولم يستطِع الخَصم أن يذمه إن لم يمدحه؛ فكثير من المصادر الغربية حين يذكرون صلاح الدين يتكلّمون عنه كخصم شريف، عادل، ويعددون من مزاياه؛ رغم كونه ليس مجرد خصم؛ بل خصماً منتصراً أيضًا"..
ففي مثل هذه الأيام الأولى من شهر مارس وبالتحديد 4 مارس، تتجدد الذكرى لصلاح الدين؛ ففي هذا اليوم من هذا العام الحالي 2010 ستحل ذكرى وفاته منذ 917 عاماً، تسعة قرون وسبعة عشر عاماً مرت على وفاة صلاح الدين، وما زلنا حتى اليوم نناديه، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائد الشعر الوطنية من اسمه.
ومشوار حياة البطل صلاح الدين نحفظه في قلوبنا قبل سطور الكتب؛ ولكن السؤال: هل ما زال لقيم البطولة هذه تواجد حولنا الآن؟! وهل ما زال شباب أمتنا يؤمن بالبطولة؟ وماذا يشعر الشباب عندما يُفكّرون في أحد أبطالنا كصلاح الدين؟ وماذا تعني لهم الآن قيم البطولة؟
كل هذه أسئلة خطرت ببالك بالتأكيد وأنت تمر فوق صفحات حياة "الناصر"؛ فخلال ما يقارب القرون العشر كم من تغييرات أثّرت علينا؟! ولذلك لم يكن من الممكن أن تمر مثل هذه الذكرى فقط بأن نطرح تاريخاً عريقاً مبهراً؛ بل يجب أن نضع الاثنين على كفتي ميزان، الماضي المشرّف، والحاضر ضبابي اللون..
وعندما توجهنا بهذه الأسئلة والخواطر إلى شباب اليوم تنوّعت إجاباتهم، وإن غلب على أكثرها التشاؤم.
عبير عبد الله (30 عاما - مهندسة معمارية).. تقول:"أشعر بتناقض شديد، عندما تُذكّرونني بصلاح الدين الآن، وتتساءلون عن قيم البطولة، أين هي هذه القيم؟ إن مدرسة صلاح الدين أصبحت جزءاً من التاريخ فقط لا علاقة له بالحاضر الحالي، رغم أننا لم نكن في عصر نحتاج إلى أمثال صلاح الدين مثلما نحتاج له الآن، أتمنى في ذكراه هذه أن يمنّ الله على أمتنا بمن هو مثله، لعله أن يكون هناك بريق من أمل لا نراه".
محمد حسن أحمد (26 سنة - مدرّس).. يقول:"فكرة البطل الأوحد أو القائد الملهم كانت دائمًا وراء كوارثنا، لقد تعلمنا هذا من التاريخ، بالتأكيد أشعر بالفخر مثل غيري عندما أتذكر هذا التاريخ الرائع؛ ولكن أن نعيش حتى الآن على هذه الأفكار ننتظر البطل المُخلِّص؛ فهو محض وهم، لن يأتي في عصرنا صلاح الدين ولا من هو مثله، لو أردنا أن نتطور وننجح، فليكن هذا بأيدينا نحن، وبفكرنا نحن، وليس بانتظار فكرة بطولة وهمية لن تجيء".
و على عكس (محمد) أتى رد أحمد رضوان (35 سنة - طبيب) حيث يقول:"جميل أن نتذكر اليوم صلاح الدين، ونتكلّم عن قيم البطولة المفتقدة، فنحن الآن في أمسّ الحاجة إلى مثل هذه الأفكار، إلى ما يربطنا بتاريخنا ثانية ليعيد لنا الثقة في أنفسنا، وإننا لم نكن سيئين على طول الخط، وأن هناك أملاً، أن يأتي منقذ وبطل، يُعيد لنا قيم الانتصار والكرامة والعزة، يذكّرنا أنه ما زال هناك في العرب أبطال".
أما آية عبد الهادي (18 سنة - طالبة بكلية ألسن) فتتساءل:"عن أي قيم بطولة تسألون؟؟ في عصر يتم التحرّش فيه بالبنات في قلب الشارع دون أن يتدخّل أحد ليمنع ذلك، بالتأكيد فرق شاسع عندما نتخيّل ذلك ونتخيّل عصر صلاح الدين، لقد كان عصراً مبهراً وانتهى، ولا يوجد أي أمل قريب -في رأيي- بإمكانية عودته".
أما منار محمد زيادة؛ فكانت أكثر من سألناهم تفاؤلاً؛ حيث قالت:"ما أروع أن نتذكّر قيم البطولة هذه؛ فهذا يؤكد آثارنا في التاريخ، وبالتأكيد أحفاد صلاح الدين قادرون يوماً ما على استعادة ما فقدوا؛ فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم الدين"؛ ولذا أشعر أن يوم الفرج قريب، وأنه إذا مرت علينا كَبوة كهذه، بالتأكيد سيعود عصر البطولة، وسيتواجد أبطال كصلاح الدين وقطز وغيرهم".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] صلاح الدين مدفون بضريح قرب الجامع الأموي في دمشق
والحقيقة رغم تفاؤل منار تبقى آراء الأغلبية تُلقي بظلالها على واقعنا الحالي الذي سيطرت عليه قيم المادة والمنفعة والمكسب الشخصي، ولم يعد هناك أي صدى أو معنى لكلمات؛ كالمصلحة العامة، أو وحدة الأمة العربية، أو الخصومة الشريفة، كلها معاني تثير السخرية عند الحديث عنها.. وانتشرت داخلنا فكرة أن قيم البطولة لم تعد توجد إلا في كتب التاريخ والروايات الخيالية، أما على أرض الواقع فلم يعد لها وجود، ولا يُتوقع لها العودة..
فهل يمكن لهذه الصورة أن تتغيّر؟!! وهل يمكن لكل الأفكار والقيم التي وجدت فأوجدت (صلاح الدين) أن تتجمع لتوجد ثانية؟!! أم إن أبيات الشاعر المبدع (أحمد مطر) هي ما تستحق أن ننظر لها الآن؟!! حيث قال في نهاية قصيدته (ورثة إبليس):
وغاية الخشونة
أن تندبوا: "قم يا صلاح الدين، قم"
حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة
كم مرة في العام توقظونه
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه
لأنه لو قام حقًا بينكم فسوف تقتلونه
لمعلوماتك:
* وُلد صلاح الدين الأيوبي أو يوسف بن نجم الدين بن أيوب، في قلعة تكريت –بالعراق- عام 1138م، في وقت ضيق حلّ على الأيوبيين، والأسرة بأكملها ترتحل إلى المجهول، ولم يتوقع له والده الحياة؛ ولكن الطفل نجا، وكان تميمة حظ الأيوبيين التي صنعت اسمهم عبر التاريخ.
ويختلف الكثيرون في نسبه؛ فالنسب المعروف له عبر التاريخ والأكثر شهرة هو المأخوذ عن ابن الأثير من كتابة المشهور (الشامل في التاريخ)؛ حيث نسبه إلى الأكراد، ولكن الحسن بن داود الأيوبي في كتابه (الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية) نفى أن أصل عائلته الأيوبية من الأكراد، وأكد أن أصولهم عرب؛ ولكنهم نزلوا في بلاد الكُرد فانتسبوا إليهم، وأرجع نسب الأيوبيين عبر سلسلة عربية طويلة؛ حتى وصل إلى "غالب بن فِهر" جد قريش.
* نشأ صلاح الدين في دمشق تحت رعاية والده "نجم الدين أيوب" وعمه "أسد الدين شيركوه" في ظل بطل عربي آخر لا يقل أهمية عن صلاح الدين، وإن لم يحظَ بنفس الشهرة، وهو "نور الدين زنكي"، وهناك تشرب فكرة استعادة القدس، ووحدة العرب والمسلمين، واستقى قدرات المقاتل وروحه وقيم الفروسية ومبادئها.
* اشترك يوسف -الذي كناه والده بكنية (صلاح الدين)- في الجهاد، بصحبة عمه، عندما أرسل نور الدين محمود جيشه لمصر بناء على استغاثة وزيرها (شاور)، وقد سَيّر (نور الدين) الجيش ليستكشف أحوال مصر؛ حيث وجد في هذا فرصة ليكون له موضع قدم هناك، وكانت سائدة لديه فكرة أن مصر والشام صنوان، لا يمكن النصر بدون أن يتحدا ويجتمعا على كلمة واحدة؛ في ذلك العصر كانت مصر تقع تحت الحكم الفاطمي، وعلى رأسها الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، والذي استوزر (أسد الدين شيركوه)، ومن بعده (صلاح الدين) وعمره 32 عاما؛ فأصبح صلاح الدين وزير مصر، وعمل على إعادة الأمة بأكملها تحت خلافة عباسية واحدة ولقّب بـ"الناصر".
* لم يكن الطريق أمام صلاح الدين ممهداً حتى يحقق النصر، ويصل في النهاية لتوحيد مصر ودمشق تحت حكم واحد، ويستمر حتى تصبح الأمة الإسلامية (العراق ومصر والشام) موحدة تقريبًا بعد زمن طويل من الفرقة، لم يحدث ذلك عبر طريق مفروش بالورود؛ بل عَبر صلاح الدين المؤامرة تلو الأخرى، سواء من الملوك العرب على هذه الدول، أو من محاولات الحركة الباطنية (الحشاشين) لاغتياله، أو من الصليبيين الذين دخل معهم الجولة تتبعها الأخرى؛ حتى وصل إلى 4 يوليو عام 1187؛ حيث قامت معركة حطين، وهي المعركة الأشهر في التاريخ الإسلامي والعربي، وانتصر بها صلاح الدين، ثم استمر حتى وصل إلى أسوار القدس، التي استعادها في ذكرى الإسراء والمعراج 27 رجب 2 أكتوبر من عام 1187.
* في عام 1191، جاءت الحملة الصليبية الثالثة، بغرض استعادة بيت المقدس؛ فكان على رأسها (ريتشارد قلب الأسد) ملك إنجلترا، (فليب أغسطس) ملك فرنسا، (فريدريك بربروسا) ملك ألمانيا وانتهت الحملة بصلح الرملة، وعلى عكس ما هو منتشر؛ فإن صلاح الدين وريتشارد لم يتقابلا سويًا وجه لوجه مطلقًا.
* وفي 4 مارس 1193، مات صلاح الدين الأيوبي متأثرًا بالحمى في دمشق، وقد كان عمره 55 عاما، وعندما فتحت خزانته، وجد لديه 47 درهمًا ناصريًا، وجرام واحد من الذهب السوري، ولم يكن هذا كافيًا حتى لتشييع جنازة السلطان، ولم يكن يملك دارًا ولا عقارًا، سوى سيرة طيبة ستستمر بعده لما يقارب العشرة قرون، لتلهم الكثيرين على مر الأجيال بأن البطولة ممكنة والنصر ممكن.
وصلاح الدين مدفون الآن بضريح قرب الجامع الأموي في دمشق، وعندما زارها (فلهلم الثاني) إمبراطور ألمانيا، وذهب إلى قبر صلاح الدين وضع باقة زهور كتب عليها "ملك بلا خوف ولا ملامة علّم خصومه طريق الفروسية الحق".