ياسر مصطفى عضو فضى
رقم العضوية : 234 تاريخ التسجيل : 19/02/2010 عدد المساهمات : 273
| موضوع: قدوم وفد نجران عليه-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- الثلاثاء 23 مارس 2010 - 22:24 | |
| قدوم وفد نجران عليه-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- المجتمع المدني
قال ابنُ إسحاقَ: وَفَدَ على رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-وفدُ نَصَارى نجران بالمدينة, فحدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير, قال: "لمَّا قدم وفدُ نجرانَ على رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-دخلُوا عليه مسجدَهُ بعد صلاةِ العصرِ, فحانتْ صلاتُهم فقامُوا يُصلُّون في مسجدِهِ, فأراد النَّاسُ منعهم, فقالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-:"(دعُوهم), فاستقبلُوا المشرقَ فصلُّوا صلاتَهم.(1)
ثبت في الصحيح عن حُذيفة قال: جاء العاقبُ والسيدُ صاحبا نجران إلى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-يريدان أنْ يُلاعناه، فقال أحدُهما لصاحبِهِ: لا تفعلْ، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه؛ لا نفلحُ نحن ولا عقبنا من بعدنا، فقالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعثْ معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا رجلاًَ أمينا، فقال: (لأبعثن معكم رجلاً أمينا حقَّ أمين)، فاستشرف لها أصحابُ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-،فقال: (قُمْ يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام, قال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ)(2).
روى البيهقيُّ بسنده عن يونس-وكان نصرانياً فأسلم-أنَّ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- كَتَبَ إلى أهلِ نجران قبل أنْ يُنزلَ عليه: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} (1) سورة النمل(3): "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب, من محمدٍ النَّبيِّ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-إلى أسقف نجران، وأهل نجران: إنْ أسلمتُم فإني أحمدُ إليكم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد, وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم فقد آذنتكم بحربٍ, والسلام".
فلما أتى الأسقفَ الكتابُ فقرأه فَظِعَ به وذُعِرَ به ذُعْراً شديداً, فبعث إلى رجلٍ من أهلِ نجران يُقال له شُرحبيل بن وَدَاعة وكان مِن همدان, ولم يكن أحدٌ يُدعى إذا نزل معضلة قبله, لا الأيهم ولا السيد, ولا العاقب, فدفع الأسقف كتابَ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- إليه فقرأه, فقال الأسقفُ: يا أبا مريم, ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمتَ ما وعد اللهُ إبراهيمَ في ذريةِ إسماعيلَ من النُّبوة, فما يؤمن أن يكون هذا هو ذلك الرجل, ليس لي في النبوة رأيٌ, لو كان أمرٌ من أمْرِ الدُّنيا أشرتُ عليك فيه، وجهدتُ لك، فقال له الأسقفُ: تَنحَّ, فاجلسْ, فتنحى شرحبيلُ فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد الله بن شرحبيل, وهو من ذي أصبح من حمير, فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل.
فقال له الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب فأقرأه الكتاب, وسأله عن الرأي فيه, فقال له مثل قول شرحبيل, وعبد الله فأمره الأسقف فتنحى .
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضرب به, ورفعت المسوح في الصوامع, وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار, وإذا كان فزعهم بالليل ضرب الناقوس ورفعت النيران في الصوامع فاجتمع-حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح-أهل الوادي أعلاه وأسفله, وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع, وفيه ثلاث وسبعون قرية, وعشرون ومائة ألف مقاتل, فقرأ عليهم كتاب رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-وسألهم عن الرأي فيه, فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني, وعبد الله بن شرحبيل, وجبار بن فيض الحارثي, فيأتوهم بخبرِ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-, فانطلق الوفد حَتَّى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللاً لهم يجرونها من الحبرة وخواتيم الذهب, ثم انطلقوا حَتَّى أتوا رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام, وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً, فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم والذهب, فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان, وعبد الرَّحمن بن عوف, وكانا معرفة لهم, كانا يخرجان العير في الجاهلية إلى نجران فيشترى لهما من بزها, وثمرها, وذرتها, فوجدوهما في ناس من الأنصار والمهاجرين في مجلس, فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرَّحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد علينا سلامنا, وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا, فما الرأي منكما أنعود؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرَّحمن -رَضيَ اللهُ عَنْهُم-: أرى أنْ يضعوا حُللَهم هذه, وخواتيمهم, ويلبسوا ثياب سفرهم, ثم يأتوا إليه ففعل الوفد ذلك, فوضعوا حللهم وخواتيمهم, ثم عادوا إلى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- فسلموا عليه فردَّ سلامَهم، ثم قال: (والذي بعثني بالحقِّ لقد أتوني المرة الأولى, وإنَّ إبليسَ لمعهم), ثم سألهم وسألوه, فلم تزلْ به وبهم المسألة, حَتَّى قالُوا له: ما تقول في عيسى-عَلَيهِ السَّلامُ-؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى, فيسرنا إنْ كنتَ نبياً أن نعلم ما تقول فيه؟ فقال رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: ما عندي فيه شيء يومي هذا, فأقيموا حَتَّى أخبركم بما يُقال لي في عيسى-عَلَيهِ السَّلامُ-,فأصبح الغد, وقد أنزل الله-عز وجل-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (59-61) سورة آل عمران. فأبوا أن يقروا بذلك, فلمَّا أصبحَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- الغد بعدما أخبرهم الخبر, أقبل مشتملاً على الحسن والحسين -رَضيَ اللهُ عَنْهُما- في خميلٍ له, وفاطمة -رَضيَ اللهُ عَنْهُا- تمشي عند ظهرِهِ للمُباهلة, وله يومئذٍ عدة نسوة, فقال شرحبيل لصاحبيه: يا عبد الله بن شرحبيل, ويا جبار بن فيض: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي, وإني والله أرى أمراً مقبلاً, وأرى والله إن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حَتَّى يصيبونا بجائحة, وإنا أدنى العرب منهم جواراً, وإن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه فلا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك, فقال له صاحباه: فما الرأي؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع, فهات رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً . فقالا له: أنت وذاك.
فلقي شرحبيلُ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك, فقال: (وما هو ؟), قال شرحبيل: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز.
فقال رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: لعل وراءك أحداً يُثرِّبُ عليك, فقال له شرحبيل: سل صاحبي, فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فقال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: (كافرٌ) أو قال: (جاحِدٌ موفَّقٌ).
فرجع رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- ولم يلاعنْهم, حَتَّى إذا كان من الغد أتوه, فكتب لهم في الكتابِ: "بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما كتب محمدٌ النَّبيُّ رَسُولُ اللهِ لنجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرةٍ وكل صفراء, وبيضاء, وسوداء, ورقيق, فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة, وفي كل صفر ألف حلة, وكل حُلةٍ أوقية ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقي فبحساب, وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب, وعلى نجران مثواة رسلي ومتعتهم بها عشرين فدونه, ولا يحبس رسول فوق شهر, وعليهم عارية ثلاثين درعاً, وثلاثين فرساً, وثلاثين بعيراً إذا كان كيد ومعرّة, وما هلك مما أعاروا رسولي من دروعٍ أو خيلٍ أو ركابٍ فهو ضمان على رسولي حَتَّى يؤديه إليهم ولنجران, وحاشيتها جِوَارُ الله وذمة محمد النَّبيّ على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبعيهم, وأنْ لا يُغيِّروا مما كانوا عليه, ولا يغَّير حق من حقوقهم ولا ملتهم, ولا يَغَّيروا أسقُفٌ عن أسقفيته ولا راهب من رهبانيته, ولا واقهاً عن وقيهاه(4) وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير, وليس عليهم دنيَّة ولا دم جاهلية, ولا يُحْشُرُوْنَ, ولا يُعْشرون, ولا يَطأُ أرضهم جيش, ومَنْ سَأَلَ منهم حَقَّاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين, ومن أكل رباً من ذي قبل فذمتي منه بريئة, ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر, وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمةُ محمد النَّبيّ رَسُول اللهِ حَتَّى يأتي الله بأمره, ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلمٍ(5)".
شهد أبو سفيان بن حرب, وغيلان بن عمرو, ومالك بن عوف, والأقرع بن حابس الحنظليُّ, والمغيرة بن شعبة, وكتب حَتَّى إذا قبضوا كتابَهُمْ انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقُفُ ووجوه نجران على مسيرة ليلة, ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب, يقال: له بشر بن معاوية وكنيته أبو علقمة فدفع الوفدُ كتابَ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-إلى الأسقُفِ, فبينا هو يقرؤه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكني عن رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-, فقال له الأسقف: عند ذلك قد تعست والله نبياً مرسلاً فقال: بشر لا جرم والله لا أحلُّ عنها عقداً حَتَّى آتيه, فضرب وجه ناقته نحو المدينة, وثنى الأسقف ناقته عليه فقال له: افهم عني إنما قلت هذا لتبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا: إنا أخذنا حقَّهُ أو رضينا نصرته، أو بخعنا لهذا الرجل بما لم تبخع به العرب, ونحن أعزُّهُم وأجمعُهم داراً, فقال له بِشرٌ: لا والله لا أقبل ما خَرَجَ من رأسِك أبداً, فضرب بشرٌ ناقتَهُ وهو مولٍ ظهره للأسقفِ, وهو يقول:
إليك تَعْدُوُ قَلِقاً وَضِيَنُها(6)
مُعْترِضاً في بطنِها جَنْينُهَا
مُخالِفاً دينَ النَّصارى دينُهَا
حَتَّى أتى النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- فأسلم, ولم يزلْ مع النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-حَتَّى استُشهد أبو علقمة بعد ذلك.
ودخل الوفدُ نجران فأتى الرَّاهب ليث بن أبي شمرٍ الزَّبيْديَّ وهو في رأس صومعةٍ له, فقال له: إن نبيَّاً قد بُعِثَ بتهامة, وإنه كتب إلى الأسقفِ فأجمع أهل الوادي أنْ يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة, وعبد الله بن شرحبيل, وجبار بن فيض فيأتونهم بخبره, فساروا حَتَّى أتوه فدعاهم إلى المباهلة فكرهوا ملاعنتَهُ, وحكَّمه شرحبيلُ فَحَكَمَ عليهم حُكْماً, وكَتَبَ لهم كتاباً, ثم أقبل الوفدُ بالكتابِ حَتَّى دفعُوه إلى الأسقفِ, فبينا الأسقفُ يقرؤه وبشرٌ معه حَتَّى كبت ببشر ناقته فتعسَّهُ, فشهد الأسقفُ أنه نبيٌّ مرسلٌ, فانصرف أبو علقمة نحوه يريدُ الإسلامَ, فقال الرَّاهبُ: "أنزلوني وإلا رميتُ بنفسي من هذه الصَّومعةِ", فأنزلوه, فانطلق الرَّاهبُ بهديةٍ إلى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-, منها هذا البُرْدُ الذي يلبسه الخلفاءُ, والقَعْبُ والعصا, وأقام الراهبُ بعد ذلكَ يسمعُ كيف ينزلُ الوحيُ والسُّننُ والفرائضُ والحدودُ, وأبى اللهُ للراهبِ الإسلامَ فلم يُسلمْ, واستأذنَ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-في الرَّجعةِ إلى قومِهِ, فأذن له، وقال-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: (لك حاجتك يا راهبُ إذ أبيتَ الإسلامِ)، فقال له الراهب: إنَّ لي حاجةً ومعَاداً إن شاء الله, فقال له رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-: (إن حاجتك واجبةٌ يا راهبُ، فاطلبها إذا كان أحبَّ إليك)، فرجع إلى قومِهِ فلم يَعُد حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-.
وإنَّ الأسقُفُ أبا الحارث أتى رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-ومعه السيد, والعاقب, ووجوه قومه, وأقامُوا عنده يستمعون ما ينزل اللهُ عليه, فكتب للأسقف هذا الكتابَ وللأساقفةِ بنجرانَ بعده: "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمدٍٍ النَّبيِّ إلى الأسقفِ أبي الحارث وأساقفة نجران, وكهنتهم, ورهبانهم, وأهل بِيعِهم, ورقيقِهم, وملتهم وسوقتِهم, وعلى كل ما تحت أيديهم من قليلٍ وكثيرٍ جوار الله ورسوله لا يُغير أسقف من أسقفته, ولا راهب من رهبانيته, ولا كاهن من كهانته, ولا يغير حقٌّ من حقوقِهم, ولا سلطانهم, ولا مما كانوا عليه. على ذلك جوارُ اللهِ ورسولِهِ أبداً ما نَصَحُوا وأصلحُوا عليهم غير مثقلين بظالم ولا ظالمين". وكتب المغيرة بن شعبة.
فلمَّا قَبَضَ الأسقفُ الكتابَ, استأذن في الانصرافِ إلى قومِهِ ومن معه, فأذن لهم فانصرفوا(7).
عن ابن إسحاق, قال: وبعث رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-عليَّ بن أبي طالب إلى أهلِ نجرانَ ليجمعَ صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم(.
الفوائدُ والحِكَمُ والفِقْه مِنْ هذه القِصَّةِ :
1- جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.
2- تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين, وفي مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً, ولا يمكنون من اعتياد ذلك.
3- إن إقرار الكاهن الكتابي لرَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-بأنه نبيٌّ لا يُدخله في الإسلامِ ما لم يلتزمْ طاعتَهُ ومُتابعتَهُ, فإذا تمسَّكَ بدينِهِ بعدَ هذا الإقرارِ لا يكونُ ردةً منه.
4- جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم, بل استحباب ذلك, بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يُرجى إسلامُهُ منهم, وإقامة الحجة عليهم.
5- أن من عظَّم مخلوقاً فوق منزلته التي يستحقها بحيث أخرجه عن منزلة العبودية المحضة, فقد أشرك بالله وعبد مع الله غيره, وذلك مخالفٌ لجميع دعوة الرسل.قال ابن القيم في"زاد المعاد" 3ص642:"... وأما قوله إنه-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-كتب إلى نجران باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فلا أظن ذلك محفوظاً وقد كتب إلى هرقل : "بسم الله الرحمن الرحيم وهذه كانت سنته في كتبه إلى الملوك كما سيأتي إن شاء الله –تعالى- وقد وقع في هذه الرواية هذا وقال ذلك قبل أن ينزل عليه {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} (1) سورة النمل. وذلك غلط على غلط فإن هذه السورة مكية باتفاق وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك.
6- جواز إهانة رسل الكفار وترك كلامهم, إذا ظهر منهم التعاظم والتكبر, فإن رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لم يكلم الرسلَ, ولم يردَّ السَّلامَ عليهم حَتَّى لبسوا ثيابَ سفرِهم وألقوا حُللَهم وحُلاهم.
7- أن السنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله, ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة, وقد أمر الله -سبحانه- بذلك رسولَه,ُ ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك, ودعا إليه ابنُ عمِّه عبدُ الله بن عباس لمن أنكر عليه بعضَ مسائلِ الفروعِ, ولم ينكر عليه الصحابةُ. ودعا إليه الأوزاعيُّ سفيانَ الثوريَّ في مسألةِ رفعِ اليدين ولم يُنكَرْ عليه ذلك, وهذا من تمام الحجَّةِ .
8- أنه يجوز معاوضتهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه.
9- اشتراط الإمام على الكفار أن يؤووا رسلَهُ ويُكرموهم ويُضيِّفُوهم أياماً معدودةً .
10- جواز اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه من سلاح أو متاع أو حيوان, وأن تلك العارية مضمونةٌ, لكن هل هي مضمونة بالشرط أو بالشرع ؟ وهذا محتمل.
11- أن الإمام لا يقر أهلَ الكتاب على المعاملات الربوية؛ لأنها حرامٌ في دينهم, وهذا كما لا يقرُّهم على السُّكْرِ, ولا على اللِّواط والزِّنى, بل يحدهم على ذلك .
12- أنه لا يجوز أن يُؤخذَ رجلٌ من الكفارِ بظلمِ آخر, كما لا يجوزُ ذلك في حقِّ المسلمين, وكلاهما ظلم.
13- بعث الإمام الرجل إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام, وأنه ينبغي أن يكون أميناً وهو الذي لا غَرَضَ له ولا هَوَى, وإنما مرادُه مجرد مرضاةِ اللهِ ورسولِهِ لا يشوبُها بغيرِها, فهذا هو الأمينُ حق الأمينِ, كحالِ أبي عُبيدةَ بن الجَرَّاح(9). | |
|