في حالات الانكسارات النفسية يكون المرء فريسة سهلة للجهل والدجل والشعوذة.
حتى الدول والمجتمعات، حينما تلحق بها الهزائم -خاصة بعد عز وأنفة- تكون تربة خصبة للخرافة، ولديها قبول سريع للوقوع في دائرة النصب والاحتيال، وميل مدهش للانصياع لأي محتال يُحسن عرض بضاعته!!
تحكي كتب التاريخ أن مدينة البندقية -كانت أغنى وأشهر المدن الأوروبية في العصور الوسطى؛ وذلك نظراً لاحتكارها العملي للتجارة مع الشرق، وكانت حكومتها عادلة ونظيفة، مما جعل من هذه المدينة ليس فقط الأغنى، ولكن الأكثر تمتعاً بالحرية والعدل.
وظن أهل البندقية أن حالة الرخاء هذه ستدوم إلى الأبد، وأن السماء قد اصطفتهم من دون كل مدن الأرض، فحبتهم بالخير والرزق الوفير!.
لكن القدر خبأ لهم ما لم يتوقعوه، حيث تحولت التجارة إلى إسبانيا والبرتغال، ثم إلى هولندا وإنجلترا، فأخذت مفاتيح القوة تتساقط من يد البندقية، وفقدت رويدا رويدا سلطتها الاقتصادية، إلى أن كانت الطامة الكبرى في خسارتها لأحد أهم مراكز قوتها "جزيرة قبرص"، والتي انتزعها الأتراك من البنادقة، وذلك في نهاية القرن الخامس عشر.
وهنا أفلست الأسر الغنية، وخيمت على الجميع سُحُب الفقر التي لم يعتدها البنادقة، ونظر الجميع إلى الماضي المنصرم نظرة حسرة وألم، وبلغ منهم التشاؤم مبلغاً بعيداً.
وفي عام 1589 ميلادية، تنامى إلى أسماع الناس نبأ رجل يدعى "إل براغادينو"، ذلك الرجل الغامض المثير للدهشة، الذي درس الكيمياء وتوصّل إلى طريقة تمكّنه من مضاعفة الذهب عن طريق المادة السحرية التي ابتكرها بنفسه، وضاعف بها -حسب ما يتناقل الناس- ثروته!!.
وطارت الأخبار عن قدرة هذا الرجل في إعادة البندقية إلى مجدها، وذلك بواسطة مادته السحرية القادرة على تحويل أي معدن رخيص إلى ذهب خالص!، وبالفعل ذهب بعض نبلاء البندقية إلى قصره، واستأذنوا عليه، وسمح لهم "إل براغادينو" بدخول قصره المليء بقطع الذهب، والتحف القادرة على خطف الألباب.
وأخذ ببساطة وعدم مبالاة بعض قطع الحديد، ووضعها في يده، ثم فتحها ثانية ليخرج منها مسحوق من الذهب البراق، ووزّعه عليهم ببساطة وكبرياء كتذكار!!..
وعندها طلبوا منه أن يستقر في البندقية ويقوم بمساعدتهم بطرقه المدهشة وعلمه الخارق، كي تعود للمدينة قوتها وسطوتها، اعتذر لهم بأن لديه عروضاً من ممالك أخرى، والأمر يحتاج إلى وقت من التفكير، وأنه في حيرة من أمره، لكنه سيضع في اعتباره البندقية وهو يقرر ويختار!!.
وخلال فترة التفكير كانت الأخبار تصل إلى نبلاء البندقية عن العروض التي يتلقاها "إل براغادينو"، وعن الحفلات الكبيرة التي ينظّمها، والتي يتباهى فيها بتحويل الأشياء التافهة إلى ذهب أصفر براق.
وهنا قرر أهل البندقية أن يقدموا الغالي والنفيس إلى ذلك الرجل الساحر، فذهب وفد من نبلائهم إليه، ووعدوه بأن يقوموا بكل ما يأمرهم به، وأنهم سيُعطونه ميزانية مفتوحة، ليفعل ما يريد!!.
وفي أواخر العام نفسه وصل "إل براغادينو" إلى البندقية، ومعه كلبان ضخمان للحراسة، أحاطاه بالرهبة، خاصة مع منظره المهيب بعينيه الداكنتين، ونظراته الثاقبة الحادة، وحاجبيه الكثيفين.
وأسكنته حكومة البندقية في أفخم قصورها، والذي يطل على جزيرة غويديكا، حيث الطبيعة الساحرة.
وبدأت حفلات البذخ والولائم العامرة، والتبذير الشديد، والحكومة تموّل نزوات الرجل المتعددة مهما كان غلوّها.
أما في شوارع وحواري البندقية، فقد بدأ الناس في الانشغال بالكيمياء، حيث محلات متخصصة لبيع أدوات التقطير والأنابيب الدقيقة، والفحم، وبعض المواد الكيماوية المختلفة، وعاشت البندقية في شغف بالكيمياء، بانتظار الرجل الساحر كي يعيد لهم المجد، ويعلّمهم أصول الثروة السريعة.
لم يبدأ "إل براغادينو" في عمل أي شيء من أجل صنع الذهب وإنقاذ البندقية من الخراب، بالعكس استمر في حياته اللاهية العابثة، والمدهش أن شعبية الرجل أخذت في الازدياد.. والازدياد!!.
وجاءته الهدايا من كل أوروبا، وحجّ إليه الكثير من نبلائها، بالرغم من أنه -وهذا هو المدهش- لم يعطِ مؤشرا واحداً على قُدرته الخارقة، لكن أحاديث البشر وكلامهم في المنتديات والمجالس كان يضيف على سمعته من الرهبة والسحر الشيء الكثير، وهو ما كان يحتاجه بالضبط ذلك الكيميائي العابث!.
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية، بدأ الناس في القلق، وأخذوا في الشكوى والتمرد، لكن مجلس الشيوخ الذي أتى بالرجل، أخذ يحذرهم من أن الرجل نافد الصبر، وأن مداهنته هي السبيل الوحيد لجني الأرباح!!.
وصبر القوم لأشهر أخرى، حتى بدأ النبلاء أنفسهم في التمرد، خاصة مع الأموال الكثيرة المطالبون بضخها من أجل الإنفاق على هذا الكيميائي الغريب!!.
وعندما علم "إل براغادينو"، بما يدور في المجالس، لم يقلق أو يثور، إنما بادل الشكاكين في قدرته بالاحتقار، وقال كأنه يفشي سره الكبير على أطفال سذَّج: لقد أودعت في بيت مال المدينة المادة الغامضة التي تضاعف الذهب، وأنه قادر -والآن- على مضاعفة الذهب!، لكنه سيضاعفه مرة واحدة فحسب، وهذا ما لن ينقذ البلاد من الأزمة التي تجتاحها، ولأنه من طبيعة المادة أنها تزداد فعالية ومضاعفة للذهب كلما كان الأمر أكثر بطئاً!، فإنهم يجب أن ينتظروا سبع سنوات كمدة مثالية لمضاعفة الثروة بشكل سيجعل أهل البندقية لا يخافون من الأيام أبدا!!!.
ووافق مجلس الشيوخ على الانتظار!، لكن الناس ومعهم النبلاء ترددوا في الانتظار سبع سنوات عجاف أخرى، وطالبوا ببرهان، أو أي زيادة -ولو طفيفة- تطمئنّ بها قلوبهم الجزعة.
لكن "إل براغادينو" بالغ في عجرفته، حانقاً على الشعب الذي كرّس موهبته كلها في خدمته، لكنهم خانوه بفقدانهم للصبر، وتشكيكهم في مقدرته التي لا ينكرها إلا السفهاء!!.
وعقاباً لهم ترك الرجل مدينة البندقية، متجهاً إلى مدينة "ميونخ" بدعوة من دوق "بافاريه"، ذلك الرجل فاحش الثراء، والذي خسر ثروته نتيجة لإسرافه وبذخه الشديد، ويأمل أن يعيد له الكيميائي ثروته.
وفي ميونخ جلس "إل براغادينو"، متمتعاً بحياته، وتكرر النمط نفسه معه!!.
هل رأيتم يا أصدقائي كيف تمضي الأمور حينما نهرب من الطريق الحقيقي للنجاح والمجد، ونذهب إلى أصحاب الحيل ليصنعوا لنا ما يجب أن نصنعه بأيدينا، في محاولة غبية لامتلاك المجد والنجاح مضافاً إليه الكسل والراحة، وبدلاً من أن يعيد أهل البندقية النظر في أسباب الخسارة والإخفاق، أرادوا أن يأتوا بمن ينفخ في الذهب من روحه، فتلد لهم السبيكةُ سبيكةً أخرى، وتتزاوج الدراهم، فتتناسل بالعشرات والمئات!.
كثير منا قد يضحك على أهل البندقية، ولا يدرك أن بيننا ألف "إل براغادينو" يمرحون ويتحايلون، ويجنون الثروات، في غفلة منا.
نادراً ما يظن المرء منا في نفسه ظناً سيئاً، قليل منا من يرى بأن مشاكله تنبع من سلوكه وأفكاره وقناعاته، الفشل واللوم يجب أن يُلقى على شخص أو ظرف ما، شيء في العالم الخارجي هو الذي يجب أن توجّه له أصابع الاتهام، أما نحن فالبراءة تحملنا على جناحيها، وذكاؤنا ونباهتنا ليسوا بحاجة لإثبات.
وأكاد أجزم أن "إل براغادينو" لو كان يحمل حقيبة بها مئات الأوراق والنظريات الاقتصادية، وبها الحلول المنطقية المعقولة لأزمة البندقية ما استمع إليه أحد أو أعطاه أذناً مصغية.
ذلك لأن الحل لن يخرج عن التفكير المستمر، والعمل المضني، والتعب الشاق.
كان سيتلخص في معادلة واحدة، وهو أن يتعب الأبناء كما تعب الأجداد، كي تعود البندقية أروع وأجمل مما كانت، وهذا آخر شيء يريد مثل هؤلاء الاستماع إليه.
والمؤسف أن هذا لا يزال موجوداً حتى اليوم..
وبحكم كتاباتي في مجال تنمية وتطوير الشخصية، ومشاركتي للشباب همومهم وتطلعاتهم، فإنني أواجه كل يوم سؤالاً من شاب يسألني عن طريق النجاح السهل السريع، لا يريد أن يسمع كلاماً عن الدراسة، والتحصيل، والركض بالسيرة الذاتية هنا وهناك.
لا يحتمل حديثاً عن التدريب، والعمل نهاراً والدراسة ليلاً، والقراءة باستمرار ودأب، ويقول بأنه يريد الحلول السحرية، يريد النصائح العشر، والمفاتيح السبع، والخطوات الخمس للسعادة والنجاح!!، بشرط ألا يحتوي واحد منهم على كلمات مثل: "تحمَّل، صابر، حاول مجدداً، لا تيأس".
ببساطة يريد مني أن أكون "إل براغادينو" التنمية البشرية!!.
فما رأيكم يا أصدقائي في هذا العرض؟؟!!