الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على هديه واتبع سنته ..
وبعد :
فإن لهذه المحاضرة سبب ؛ وهو أن بعض الاخوة الدارسين في مجالات العلوم والهندسة من طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن منشغلون في تلك العلوم التي سجلوا فيها وتخصصوا فيها، من هندسة أو كيمياء أو فيزياء أو غير ذلك، وعندهم شوق لطلب علم الشرع وقد لا يستطيعون الجمع بينهما ثم كانت هناك نظرات يستفسرون عنها، فهناك طالب العلم الذي اشتغل بالعلم وبذل جهداً في طلب العلم ينظر إلى من يشتغل بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظرة فيها شيء من الإزدراء والإحتقار باعتبار أنه لم ينل حظه من العلم مثلما نال .
وآخر مشتغل بالدعوة بما عنده من يسير العلم ينظر إلى من أكب على حلق العلم ودروسه ، أو شغل بحفظ المتون وغير ذلك نظرة يرى أنه قد تخلف بها عن واجب كان أولى به، أو أنه إنكفأ ورجع إلى عصر غير العصر الذي هو فيه !
ومن هنا كانت مسألة العلم والدعوة وارتباطهما مسألة مطروحة في الساحة بين الشباب ؛ ولذلك فإن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : يتعلق بالعلم وحده
القسم الثاني : يتعلق بارتباط العلم بالدعوة
فيما يتعلق بالعلم أتحدث عن ملامح في منهجيه العلم
القسم الأول : ما يتعلق بالعلم
أساسيات في منهجية العلم
الملمح الأول : العينية والكفائية في طلب العلم
لابد لنا معرفة أن قضية العلم ليست ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فالبعض قد يكون قريب عهد بالخير وحديث عهد بالإلتزام، فإذا ارتاد المجالس سمع عن العلم وأهميته وعن طلبة العلم فينقع؟ من غير بينة ومعرفة بالأولويات؛ فإن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله والسنة، كما إن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم ، وسيرة أصحابه وعلماء الأمة وائمتها، فليس المسألة إندفاعاً عاطفياً ولا رغبةً عند إنسان يحب اطلاعاً أو يرغب حفظاً … بل لا بد له من المعيارية الشرعية.
وقبل أن يقبل الطالب لا بد أن يعرف ما هو واجب عيني من طلب العلم وما هو واجب كفائي .
الواجب العيني :
أي ما يجب على كل أحد بعينه فهذا لا شك أنه الأول المقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً لابد أن يعلمه لأنه به يصح إعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك، وهو الذي تصح به عبادته فينجو به من الإبتداع أو الإنقطاع أو غير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته، كما إن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج أو طلاق وما يتعلق بمعاملاته المالية وغيرها وألوان أخرى، فالواجب العيني هو الذي يشار إليه عند أهل العلم بأنه المعلوم من الدين بالضرورة، هذا الذي لا ينبغي أن يتخلف عنه مسلم وأول ما يبدأ به المسلم عندما يبلغ سن التكليف ويعرف دين الله عز وجل .
الفرض الكفائي :
وهي فروض الكفايات التي يحتاج إليها الناس في وقت دون وقت وقد مثل لها أهل العلم بأنه مثلاً إذا كان هناك فقيراً ليس ذا مال فلا تجب عليه معرفة أحكام الزكاة، سيّما على وجه التفصيل؛ فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، والذي لن يتيسر له الحج قد لا يكون واجبا عليه في الحال معرفة أحكام الحج فان عزم عليه وتوجه إليه لزمه ان يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها وما هي سننها وآدابها وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض فيه… الخ
وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة وهي العلوم التي بها صلاح الناس في الدنيا وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك من واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها؛ فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لا بد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويبدع فيها حتى يغني الأمة في ما تفتقر إليه من هذه الأسباب التي بها قوة الأمة وحضارتها، فلا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل على ما هو أهم، لا بد أن نعرف أن هناك قسمان العلم الشرعي والعلوم غير الشرعية ثم العلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين : علوم شرعية على هيئة فرض الكفايه ، وعلوم على هيئة فرض العين ، وبعد ذلك يأتي تقسيمات أخرى ..
فابن حجر رحمه الله يقول : " المراد بالعلم الشرعي الذي يفيد معرفته ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص" .
تقسيمات العلوم عند ابن القيم
ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في "إعلام الموقعين" تفصيلاً أوسع فيقول :
النوع الأول : علم أصول الإيمان الخمسة التي هي بعد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكذا أيضاً الإيمان بالقدر خيره وشره ذكره والمذكور في الآية الجامعة {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }.
النوع الثاني : علم شرائع الإسلام واللازم منها ، وعلم ما يخص العبد من فعلها ؛ كعلم الوضوء والصلاة الصيام والحج والزكاة وتوابعها ، وشروطها ومبطلاتها ؛ سيما إذا احتاج إليها مباشرة .
النوع الثالث : علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فهذه محرمات كل واحدٍ منها في كل حال على لسان كل رسول لا تباح قط ..و لذلك كما يقول : أتى فيها بـ " إنما " المفيدة للحصر .
النوع الرابع : علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً ، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرته، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري الا ما تدعوا الحاجة إليه.
أما فرض الكفايه فيقول : " لا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً ؛ فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظن فرضاً ، وبالجملة فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني على غرار القاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجـب . فإذا احتاج إلى أمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه الا بعلم بعض مسائله وفروعه كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه " .
قال في آخر الأمر :
" ومدار هذه العلوم - أي الشرعية - على التفسير والحديث والفقه " .
ويكون هذا خلاصة قوله في هذه المسألة .
ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه : " قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل إمرئ في خاصة نفسه ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع " .
قال : " واختلفوا في تلخيص ذلك " ، وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الإعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها ، وقد وضع بعضهم ضابط لما يتعلق بالفرض الكفائي فقال :" وأما الفرض الكفائي فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص " ؛ أي من ناحيه العلوم غير الشرعية .
وذكر الغزالي أيضاً مقاله إضافية في ذلك قال فيها : " اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم والعلوم تنقسم إلى شرعية وغير شرعية ، وأن بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة إليه مثل الطب ولا السماع و اللغة ، وإنما العلوم التي مبلغه عن طريق الوحي بالرسل والانبياء وهي الشرائع، فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى أقسام منها محمود ومنها ما هو مذموم وإلى ما هو مباح فالمحمود ما يرتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب … الخ، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفايه وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة "
ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم ، فأولاً لا بد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً ويمكن أن نعرف أن الأسس اللازمة هي معلومات الدين الضرورية التي لايعذر المرء بجهلها والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والإعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس مطالباً على سبيل التفصيل والرد على كل فرقة والإستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني بل هو مخصوص لمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستغني ويسأل في مثل هذه المسائل .
ثم أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة، إن كان ذا مال وحج ؛ فإن قصد إليه فهذا من أوجب الواجبات والزم اللازمات ثم ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومات من الدين بالضرورة كحرمة الخمور وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق به كالربا ونحوها، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو بما يرى ميله إليه أو غير ذلك من الأنواع .
الملمح الثاني : التنوع والتوزع
وكأننا نجعل الحديث على طالب أراد أن يتوجه فنقول له أولاً كذا ثانياً : كذا وبعد أن يعرف العلم من فرض عين وكفائي تقول إن في الكفائي ما يحتاج إلى توزع وتنوع، فلو سمعت من ينتدب لعلم الحديث - على سبيل المثال - يقول لك : إن علم الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف هو أهم المهمات وأولى الأولويات ويذكر لك ما هو صحيح في نفس الأمر ، فإذاً مراده أن يكون كل طلاب العلم ممن يسمعونه يتوجهون ليكونوا محدثين، فلم نجد بعد ذلك فقيهاً ينقل لنا أو يعطينا ما يستنبط ما رواه بالكثرة من الرواة أو قد تجد من يقول لك وهو محق في ذلك أن علم الإعتقاد والتوحيد هو أساس كل شيء وأوله ومبدأه، ولكن في ذات الوقت كان توجيهه لك في هذا الأمر يجعلك تظن أن التعريفات والتفصيلات والردود في هذا العلم أولى بك من أن تعرف علم تفسير كتاب الله عز وجل أو فقه الأحكام الشرعية أو صحه الأحاديث النبوية فيختلط الأمر عليك مرة أخرى، لذلك لا بد من أن يتوسع طلبة العلم في مجال التخصص والتوسع على العلوم الشرعية المهمة واللازمة التي ذكرها ابن القيم من قبل ونظرة التركيز التي تطغى فيها العبارات بحيث عندما يمدح علم ما فكأنه لا أهمية ولا نفع ولا فائدة في غيره من العلوم وان كل صاحب تخصص يقول ذلك، فلا ينبغي أن تكون النظرة بهذا الشكل بل ينبغي أن تكون إعطاء كل علم أهميته وان يشيع بين شباب الصحوة نوع من التوزع والتنوع على ما وراء فروض العين من فروض وكفايات .
فالتوسع والتنوع على ما وراء فروض العين من فروض وكفايات ، فالتوسع والتنوع واجب على الكفايه وعلى شباب الدعوة والصحوة ألزم، ومثل هذا أيضاً يمتد إلى مسألة أهمية طلب العلم من أهمية الدعوة أو الجهاد وسيكون هناك لوم ونقد بين طلب العلم وغيره، فالذين رأوا نصرة الإسلام وخدمته في الجهاد العسكري البحت نظروا إلى كل من تفرغ لطلب العلم أو سار في طريق الدعوة نظرة إزدراء واحتقار وأنه مقصر في دين الله عز وجل وأنه لاهٍ عابث لا يقدم شيء لهذه الأمة .
وقد ينظر الذي يدعو أو يتعلم لذلك أن ليس له جلد في الدعوة وانه يطير مع كل صيحة جهاد هنا وهناك، فالتنوع والتوزع هو الذي تحتاج إليه الأمة في كل مجالاتها لتتقوى به الأمة من الداخل وعلى أعدائها في الخارج، ومن جميل ما قاله ابن القيم رحمة الله عليه : " إنما جعل طلب العلم في سبيل الله لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد " ؛ فطالب العلم يقوم لبعد مهم كقائد الجيش كلاهما يجاهد في نصرة دين الله عز وجل، ثم يقول ابن القيم : " فإنك ناظراً في ذلك فقهاً دقيقاً ومعرفة رشيدة وإحاطة بمقاصد هذا الدين فريدة وعجيبه " .
ولهذا كان الجهاد نوعين جهاد باليد والسنان وهو العسكري والمشار له فيه لكثير ، والثاني جهاد بالحجة والبيان وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهاد لعظمته ومنفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه قال تعالى : { ولو شئنا لبعثنا في كل قريةٍ نذيراً * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً } ، وهو جهاد المنافقين أيضاً .
وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }
ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن، وقال ابن القيم : " والمقصود سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله " .
إذاً لا بد أن نعرف أن كل جانب من الجوانب هو ثغرة من الثغرات يجب سدها ، وأن كل ميدان من الميادين هو إحتياج يجب أن ينتدب له أبناء الأمة من يبدع فيه ويتفرغ له، والذي يجاهد وينظر إلى غيره لا يصنع شيئاً وطالب العلم ينظر لغيره أنه يلعب ويلهو فهذا قصور نظرة وقلة فقه و ضعف في إدراك حقيقة هذا الدين وشموله وكماله .
الملمح الثالث : القدرة والتأهل
فبعض الناس من خلال المحاضرات ومجالس العلم الجياشة يريد أن يكون طالب علم ويظن طلب العلم من أيسر المسائل، وكأن علوم الشرع كما انغرس وانقدح في أذهان كثير منهم، إذا لم يحصل الطالب على مجموع عالي أو متفوق فعليه أي يذهب إلى كلية الشريعة ؛ لأنها الكلية التي لا تحتاج إلى أي ملكة من الملكات، وذلك من أقبح الأفكار وأسوأها إلا أن عباقرة الأمة وأصحاب الفطنة العجيبة كانوا هم علماء الشرع، ولنتأمل حفظ البخاري وأدب مالك … الخ، وكان سلف الأمة فيما مضى أصل؟ التوجه وقال صلّى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
فإذا عجز الإنسان من ذلك دفعوا به إلى الصناعات، ولكن الأمر انعكس الآن فلا بد أن نعرف لطلب العلم تأهل وله نجابة وذكاء واستنباط وليس سهلاً، لذلك كان السلف الصالح يتلمسون مخايل الذكاء وبوادر الفطنة عند الشباب، لذلك رأينا كل الناس طلب علم بعد أن حضر محاضرة أو خطبة أو ندوة وذلك ليس صحيحاً، فليس كل إنسان يصلح لشيء فلا بد للإنسان أن يكتشف قدرته ومواطن ذكاءه، حسبنا في ذلك ما يذكر في فقه الإمام البخاري في تـراجـمـه ، فقد حارت العقول في التوصل لما كان يهدف إليه البخاري في تراجمه، فالقضية ليست سهلة .
وننقل في هذا في تربيه النبي صلّى الله عليه وسلم ، قال الإمام مالك : " أدركت سبعين ممن يستسقى بهم ، كلهم لا يؤخذ منهم الحديث، يقال ليس من أهله" !
فإن علي رضي الله عنه كان بصيراً وعنده فقه ودقة إستنباط عجيبة ، ولتنظر إلى ما نوّع النبي صلّى الله عليه وسلم به أوصاف أصحابه فإذا أبيّ أقرؤهم، وإذا معاذ أعلمهم بالحلال والحرام ،وإذا زيد أفرضهم .. الخ، هذا التميز لا يعني أن حظهم من العلوم الأخرى كان صفراً ؛ لكن كان هناك تميزاً وتفرداً وميل ورغبة لما يصح له الإنسان، ونرى ذلك في إختلاف توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام للناس واختلاف إجاباته ولننظر إلى ما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر : ( ما أقلت الغبراء ولا أظلت السماء أصدق من أبي ذر ) .
ومع ذلك يقول له الرسول صلّى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر إنها إمارة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ) .
فهو يخوِّفه من الإمارة رغم إيمانه الشامخ ؛ لأن ليس له مؤهلات الإمارة والسياسة والتعامل مع الناس، فهو صارم كالسيف رضي الله عنه وليس ذلك عيبا فيه بل إكتشافاً لما يحسنه وابعاد عن ما لا يتقنه، واختلفت وصايا النبي صلّى الله عليه وسلم للناس ؛ لأن كلاً منهم يحتاج شيئاً معيناً فهكذا كان توجيهه عليه الصلاة والسلام في استسفار السائلين له في أي الأعمال أفضل، ولقد ذكر ابن حجر مقالة فريدة ورائعة وذكر فيها مسألة مهمة ؛ وهي قضية طالب العلم إن وجد في نفسه مكنة لطلب العلم من سعة حفظ وتوقد ذهن ودقة إستنباط كان العلم في حقه أفضل من نوافل العبادات ، وإن لم يجد ذلك كانت نوافل العبادات أفضل في حقه من العلم؛ لأنه سيمضي لطب العلم ويمضي فيه وقته فلن يصير عالماً ولا عابداً .
فلا بد أن نعرف إذاً أن القدرة والتأهل أمرٌ مهمٌ جداً في طلب العلم .
الملمح الرابع : الضبط والحفظ
فهناك بعض الشباب يريد العلم على أسهل ما يكون من دون تعب أو حفظ، ويبقى رغم ذلك طالب علم يفتي في المسائل ويشير برأيه فعلم بلا حفظ كالذي يكتب في الماء، لذلك كانت الطريقة التعليمية الأولى تعتمد على الفهم والحفظ معاً، ولذلك كان السلف يبدؤن بتعليم القرآن وتحفيظه لصغارهم وهم أبناء ست وسبع وعشر، ثم ينشطون في حفظ المتون والأحاديث والمسائل وكما قيل علم لا يعبر بك الوادي لا يعمر بك النادي، وهناك قصة للغزالي :
أنه سئل فاحتاج أن يرجع لكتبه ، فقال : لو بقي الأمر كذلك ما كأني حصلت علماً ! فاجتهد بعد ذلك في الحفظ .
فلا بد للشباب أن يتميزوا في هذا الجانب وأول هذا التميز الحفظ، ولقد كان حفظ السابقين عجيباً فحسبنا بحفظ الشافعي وما يروى عنه . وقيل للأصمعي :كيف حفظت ونسي أصحابك، قال : درست وتركوا ، يعني راجعت .
وقال ابن أبي ليلى : " إن إحياء الحديث مذاكرته " ، فقال له عبد الله بن شداد : يرحمك الله كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات .
وقال ابن عبد البر رحمة الله عليه عن الحديث الذي نصه : ( تعهدوا القرآن فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) قال : في هذا الحديث دليل على أن من لم يتعهد علمه ذهب عنه أي من كان ؛ لأن علمه كان وقت ذلك القرآن .
الملمح الخامس : المسألة والإستنباط
فليست المسألة حفظاً فقط؛ فإن بعض الناس ينكب على كتابه ويحفظه، فإذا سئل عنه لن يزيد عليه الا كأنه نسخة من ذلك الكتاب، وقد كان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر استفتى علي رضي الله عنه، ومن ذلك المسألة المشهورة من الرجل الذي جاء بامرأته التي ولدت له في ستة أشهر ، يتهمها أن الولد ليس منه، فقضى علي بن أبي طالب بأن الولد منه، واستشهد بأن الرضاعة حولين كاملين، وقال : حمله وفصاله في عامين فيمكن بعد الفصم أن يكون الحمل ستة أشهر .
وقد قال القائل في شأن أبو حنيفة رحمه الله :" لوشاء أن يجعل لك هذه الإسطوانة ذهباً لجعلها " ؛ أي من شدة قوة حجته ، وقدرته على فهم النصوص وبيان معانيها.
لذلك من وراء الفقه التفقه وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : ( نضّر الله امرئ سمع مقالتي فحفظها ووعاها ، فأدركها كما سمعها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو هو أفقه منه ) .
الملمح السادس : التأسيس والتدرج
وهي مسألة ظاهرة عن كثير من الشباب، ولعل سببها يختص بواقعنا، فالشاب يفاجأ عندما يلزم بأنه في سن لا باس بها وليس عنده شيء من العلم فيريد بذلك أن يقفز قفزة عالية، فتكون نكسته خطيرة فلا بد من صعود الدرج درجة درجة، وهناك من الناس من يخطئ في التدرج فالذي يطلب علم الحديث يبدأ بكتاب فتح الباري مباشرة دون أن يبدأ بصغار كتب الحديث مثل الأربعين النوويه وغيرها، وإذا جاء إلى الفقه يبدأ بالمغني دون تدرج فيخرج منها وليس عنده علم مؤسس، فإذا درست كتاب حروفه كبيرة ومشكل ولكن لم تعرف هذه الحروف من قبل فكيف ستقرؤه، فالتأسيس مهم جداً يكون كالقاعده التي يبنى عليها ويكون بعد ذلك التدرح .
ولذلك ذكر في تذكرة السامع :" أن من لم يتقن الأصول حرم الوصول" .
وقال القائل :" من رام العلم جملة ذهب عنه جملة "
وكذلك قيل إزحام العلم في السمع مضلة الفهم، فلو عندك ورقة بيضاء صافية ثم تكتب فيها جملة ثم تكملها في السطر نفسه والذي بعده فسيكون كلامك منتظم ومفيد، بعكس إذا كنت تكتب بخط مائل وفي أسطر متفرقة فلن تستفيد من هذه الورقة، فقبل أن يبدأ في فقه المقارن لا بد أن يبدأ في فقرة مختصرة مجردة من المسائل، ثم يزاد له بعد ذلك في كتاب أكثر توسعاً وهكذا .
ولا بد من المختصرات قبل المطولات فلا بد من الأصول أولا وبعدها الفروع، وهذا التدرج على أنواع منه أن يبدأ بالقليل ثم الكثير وان يبدأ باليسير ثم بالعسير، حتى لا تنقبض نفسه أو تصيبه المكابرة، ولذلك قيل في ترجمة كتاب العلم من صحيح البخاري : "الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره " ، والمراد بصغار العلم ما وضح من المسائل والكبائر ما دق منها، وقيل بعلمه جزيئاته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقصده .
وهذا هو الذي يخلط أما الرباني فهو الذي يحسن التربية على هذا النحو ، وقال ابن خلدون : " اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً يلقى عليها، ولا مسائل من كل باب من الفن هي أصوله ويقرب له في شرحها إجمالاً، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول مايرد عليه وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف … الخ فتجود ملكته " .
وهذا الكلام عن العلم الشرعي على الطريقة السابق وهي الطريقة الأحسن فهو يقتصر على علم أو علمين ثم بعد إمكانهما وإحكامها ينتقل إلى غيرها . وهكذا طالب مرحلة الجامعة مواده أقل؛وبالتالي يكون لديه شيء من التركيز، أما طالب الثانوية وبالذات الأول ثانوي فمواده كثيرة فيخرج منها بلا شيء أبداً .
الملمح السابع : الجدية والهمة
وحسبنا في ذلك كثير من التراجم والنماذج من ذلك يقول ابن حجر : " أنه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس عشر ساعات ، وصحيح مسلم في أربع مجالس في نحو يومين ، وشيء من بكرة النهار إلى الظهر ، وانتهى ذلك في يوم عرفة يوم الجمعة عام 813 هـ " .
والفيروزأبادي قرأ في دمشق صحيح مسلم على شيخه قراءةً ضبط في ثلاثة أيام .
وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي وابن الابار وغيرهم عجائب وغرائب يطول ذكرها .
ويذكر الإمام النووي عن نفسه أنه : " كان له في اليوم الواحد اثنا عشر درساً في اثني عشر علماً " .
ليس هذا ميسوراً لكل أحد، فالأولى أخذ علم واحد للنبوغ به وهناك من عنده همة تبلغ به ذلك، ولكن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه فكيف إذا أعطيته بعضك ؟!
فأنت تعطيه بعض فضول الأوقات ، وقوة الهمة ينبغي أن تكون على ما كانت عليه عند سلف الأمة، حتى قال بعضهم - وكان يطلب قراءة القرآن وأخذ القراءات - قال : " وكان الناس يسبقونني - أي إلى شيخ القراءات في دمشق - فعزمت على أن أكون سابقاً ، فاستيقظت قبل الفجر الأول ، ومضيت إلى المسجد وجئت ، فإذا أنا الثلاثين فقد جاء قبله تسع وعشرون قد بكروا لذلك "
وكان من دأب علماء الأمة وطلاب العلم من قبل أن تبدأ دروسهم قبل الفجر ، ثم يصلون وتبدأ دروس أخرى، والشوكاني ذكر أنه كان يدرس ويدرس ثلاثة عشر درساً في أنواع مختلفة من العلوم كل يوم .
فطلب علم بلا همة لا يمكن أن يكون، وهناك أمثلة في الظروف المعاصرة أيضاً، حتى لا يقال إن هناك ظروفاً كانت تناسب وتلائم، فهناك أحد الاخوة الذي يسر له الله الهدايه عندما انقدح في قلبه حب طلب العلم تفرغ لحفظ كتاب الله عز وجل فأتمه أقل من عام ، ثم مضت به همته أعلى من ذلك فجوَّده وأخذ الإجازة فيه ثم واصل أكثر من ذلك ، فإذا به يقرأ بالقراءات العشر ويحفظ المتون اللازمة لها ، ثم مضى لأكثر من ذلك فانتسب إلى كلية من الكليات الشرعية، ثم مضى لأكثر من ذلك وهو على دراسة غير الدراسة الشرعية، فتخرَّج ثم مضى إلى الدراسات العليا ، وانتهى من مرحلته الاولى وهو في آخر المراحل الدراسية ، وقد جمع بين جنبيه همة عالية، لذلك قال كثير من السابقين مستشهدين بالآية { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } أما بترخص وضعف فلا يكون ذلك .
ولذلك قيل يحتاج إلى العلم والتفقه إلى جد الثلاثة المتعلم والأستاذ والأب إن كان حياً حتى يحرض ابنه على ذلك ، قال الشاعر :
تمنيت أن تُمسي فقيهاً مناظراً *** بغير عناءٍ فالجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة *** تحملها فالعلم كيف يكون
بقدر الكد تكتسب المعالي *** ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً *** يغوص البحار من طلب اللآلي
علو القدر بالهمم العوالي *** وعز المرء في سهر الليالي
تركت النوم ربي في الليالي *** لأجل رضاك يا مولى الموالي
ومن رام العلا في غير كد *** أضاع العمر في طلب المحال
فوفقنني إلى تحصيل علم *** وبلغني إلى أقصى المعالي
الملمح الثامن : الإجتهاد والتورع
فإذا أردت أن تقول قولاً أو أن تبحث أمراً أو تضيء في مسألة ، فلا يكون ديدنك أن تنظر إلى عنوان هذه المسألة في الكتب أو أن تسمع إلى قول مفرد فاصل فيها !
طالب العلم إذا سئل أن يجد ويجتهد ويبحث في هذه الكتب والمراجع ، وأن يستعين بالله عز وجل .
وذكر البزار في " الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية " ، يقول ابن تيمية عن نفسه : " إن كنت أقرأ في الآية مائة تفسير - أي يطلع على مائة تفسير - في هذه الآية ثم أخرج إلى بعض المساجد الخالية في أطراف دمشق ، فأمرغ وجهي في التراب، فأقول : اللهم يا معلم إبراهيم علمني ، اللهم يا مفهم سليمان فهمني .
ليست المسألة أن تأخذ ما تيسر دون أن تعمل ذهنك وتجهد بصرك، كان السابقون إذا قالوا قولاً في مسألة فلا يقولونه إلا بعد استفراغ في الجهد والوقت بشكل كبير، ثم يقول بعد ذلك : هذا مبلغ علمي أو أحسبه كذلك ولا يصادر قول غيره .
حلية طالب العلم
من الإخلاص لله والخشيه له سبحانه وتعالى والعمل بما يعلم نادى العمل بالعلم فإن أجابه وإلا ارتحل .
ومن هذه الحلية أموركثيرة منها عدم التكبر وازدراء الآخرين وهذه ذميمة لها انتشار عند بعض الشباب فهي تسبب حرمان للعلم وبعد عن التوفيق وذهاب للمنزلة والقبول عند الناس ، ومن حلية طالب العلم حسن أدبه مع غيره من أهل العلم سيما عند المخالفة، فلا بد من مراعاة آداب الإختلاف كما قال بعض العلماء : " إذا ظفرت بوهم لعالم فلا تفرح به للحط منه ، ولكن أفرح به لتصحيح المسألة فقط ؛ فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام لاسيما المكثرين منهم، فالذي يفرح بذلك متعالم يريد أن يطلب زكاماً فيحدث به " .
وهذا لا يليق بطالب العلم ومن ذلك بعض ما أشير إليه بمقالات لبعض أهل العلم قال بعضهم : " العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول تكبر ، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع ، ومن دخل في الشبر الثالث علم إنه ما يعلم " .
لذلك فلا تكن من أهل الشبر الأول الذي يدخل الباب فيفرح ويزهو ويتكبر، وكما قيل: " تفقهوا قبل أن تسودوا " .
فإن سدتم قبل أن تتفقهوا فاتكم خيرٌ كثير ، فلا بد من الحذر من التصدر قبل التأهل ، ولا بد من مراعاة كل ما يتعلق بذلك الأدب ، ومنه أمانه النقل ونسبه الأقوال إلى قائليها .
الملمح التاسع : المواصلة والإستمرار
فإن الذي يظن أنه بعد مدة قصيرة أو بعد عدة كتب ومراجع أنه أصبح فقيهاً فهو حقيقة لم يفقه العلم ، ولم يعرف ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله : ( منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب دنيا ) .
وهناك ظاهرة موجودة وهي عدم المواصلة، يبدأ الدرس في كتاب الفقه أو الحديث أو غيره بخمسين أو ستين طالب علم ثم ينتهي بخمسة أو ستة، فليس هناك جلد أو شغف وذلك لعده أمور، منها أمور إيمانية من عدم الإخلاص وعدم القصد لله، ومنها كذلك أمور علمية لم يفقه العلم ولم يفقه أسباب وطرائقه وغي ذلك، ومنها كذلك عدم الإدراك للثمرة المرجوة من العالم، أهل العلم في ملازمتهم أمر عجيب فهذا ابن كثير رحمة الله عليه يلازم باب الحجاج المزي ملازمه طويلة حتى يصهر منه . وبعضهم لازموا شيوخهم سنوات طوال ،وأخذوا العلم منهم حتى في السفر والترحال وفي كل وقت .
الملمح العاشر : الأخذ والتلقي
أفلا يكفي خصوصاً عند الإبتداع أن يرجع المرء إلى الكتاب ؟!
وهذه مشكلة كما قيل كبيرة متكررة ؛فإن بعض الشباب بمجرد أن يسمع عن بعض الكتب المشهورة يأخذه ويقرأه يريد أن يتعلم منه قبل أن يلتقى عن شيخ متقن مجيد فاهم بهذا العلم، ومثل هذا يقع في أمور شنيعة ويحصل له خلط ومثال ذلك أمر طريق يتعلق بقارئ ليس بمتلقي لأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم التي منها : ( من سد فُرْجَةً في الصلاة فله ) ، فعندما قرأها لم يضبط فقرأها ( من سد فَرْجَه ) فنكّس المعنى وشنع وقبح .
وقال بعض أهل العلم : " يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم - وهي معدومة عند المعلم - وهي التصحيف العارض من إشتباه الحروف مع عدم اللفظ، وكذلك الغلط بزوغان البصر ومنها سقم النسخ ورداءة النقل وادماج القارئ مواضع المقاطع وهذه كثيرة جداً ،وخلط مبادئ التعليم وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة " .
ثانياً : ما يتعلق بالعلم والدعوة
فهناك أمور عند إبتداء الجيل الناشئ الذي ولد إن شاء الله في أحضان البيئة الإسلامية والأسرة المسلمة فلا إشكال فسيبدأ من صغره في حفظ القرآن وتلقي العلم، ولا يكون عنده الفصام الذي نشكو منه بل سيكون عند التدرج في العلم، ولكن ما نفاجأ به الآن أن بعض الشباب في سن العشرين وحولها الآن سيبدأ في طلب العلم ، وهو لا يدرك شيئاً وخالي من قرب ما يحتاج إليه، ويكون ملزماً في نفس الوقت في مجال علمي يحتاج لوقت فيحدث الإصطدام لذلك في الجيل الناشئ، لا بد أن نراعي هذا الأمر ؛ لأن أمر الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغالب لا يكون في أوائل السن بل عندما يبلغ ويكلّف فليكن السن الأول هو سن النقش على الحجر .
فليحصِّل وليدْرك وليتعلم فيتأسس بذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الوضع الحالي فهناك نقاط مهمة
أولاً : ينبغي أن يفهم أن كلاً على خير الذي يأخذ بأمر الدعوة والنصح والإرشاد بما عنده من علم يؤهله لذلك هو على خير، والذي يتفرغ لطلب العلم وتحصيله ولا يفضل أن يذكِّر ويعلِّم ويُرشد لا شك أن الأمر أن ليس فيهما تناقض .
ثانياً : ينبغي أن نعرف الحاجة الملحة لكل منهما للآخر؛ فإن الداعية لا يمكن أن يدعو من غير علم أي لا يدعو لأمر حتى يعلمه ولا يخوض في مسألة حتى يعرفها، وكثير من أمهات المعلومات من الدين بالضرورة لا يُشترط فيها العلم بها لأنها معلومة، مثل تذكيرك بالصلاة وأهميتها وفضيلتها وحض على أدائها في وقتها والنهي عن المنكرات المحرمة مثل الخمر والربا والفواحش، فلا شك أنه أمر معلوم فيمكنك أن تقوم فيه بأمر الدعوة والتذكير، وفي نفس الوقت لا بد لطالب العمل أن يعرف أنه لا بد له من العلم والتعليم والدعوة والإرشاد فتعلم أنه لا بد لحد أدنى لكل منهم للآخر .
ثالثاً : بعض النظرات القاسية وردود الفعل الشديدة، فبعض الإخوة قد يكون في كلية طب أو هندسة وقد توغل فيها وتوسط فيها وليس سهلاً عليه الرجوع للمبتدي والمنتهي، فقد يأتي العارض ثم يقول قصرت في طلب علم الشرع فيترك ذلك كله، فيعود إلى هذا العلم وهذه طامة كبرى إن لم يكتشف رغبته وقدرته وصفاء نيته فإذا به لا هنا ولا هناك، ثم بالمقابل هناك من يجد في طلب العلم وتحصيله فإذا رأى بعض المفاسد والشر ونحو ذلك يقول لا بد أن أترك حلق العلم لأصلح أحوال الناس .
فنقول له : لا يكون فعلك رد فعل فإن رد الفعل كثيراً ما يفتقر إلى الصواب والدقة والإتقان .
رابعاً : لا بد من أن يكون لطالب العلم إستدارك متدرج حتى لا يبقى حزينا أو كسيف البال خاصة بعد فترة من الزمن، فمثلاً طالبٌ في كلية الطب أو الهندسة عليه أن يأخذها ، يستطيع في ذلك الوقت حتى يفرغ لدراسته ثم يزيد في ذلك الوقت والجهد لطلب العلم .
أي هناك نوعان نوع مضى في الدعوة شأواً لا بأس به وحظه من العلم أقل ونوع قد مضى في تحصيل العلم شأواً لا بأس به وحظه من الإشتغال بالدعوة والامر والنهي أقل، إذا قد حصلت في جانب من الجوانب حصيلة كبرى فليكن لو قلت منها قليلاً وأعطيت من الوقت والجهد لتلك قليلاً ؛ فإن ذلك يحصل به ذلك التعادل وليست هناك نوع من النكسة الشديدة ولا ردة الفعل العنيفة بل الإنتقال والتدرج ليحصل التوازن الذي يراد بإذن الله عز وجل .
خامساً : إن كلاً ميسرٌ لما خلق له، فليس بضروري أن يكون كل طبيب عالم شرعي، مع إنه إذا كانت التربية العلمية أو كانت هناك همة واستدراك فيمكن تحصيل الأمرين وعلى الإنسان لا يقارن نفسه بغيره دون أن يكون هناك قياس مطَّرد فهناك قياس مع الفارق من ناحية سرعة حفظه وظروفه …. الخ
سادساً : ينبغي أن لا يكون هناك حرب بين الفريقين بل تكامل، والأصل أن كلاً منها لا بد أن يحصل القسم الآخر، فليس هناك داعية يدَّعي أنه يدعو بلا علم، وليس هناك عالم يقول أنه يتعلم لا للدعوة ولا للارشاد، بل يتعلم لتحصيل المعلومات وحفظها، فالأصل أن العالم هو الداعي والداعي ينبغي أن يكون عالماً، بعض الشباب في سن صغيرة بلغ من العلم مبلغاً جيداً فليعطي من علمه على إخوانه، ومن كانت له تجربة في سياسة النفوس والتلطف مع الناس وله الأساليب في مداخل الكلام والقدرة على المصابرة والإحتمال لمشاكل الناس فليعلِّم ذلك الذي حفظ ودرس وعلم .
وفي ذلك لطائف كثيرة في حياة السلف وحتى في أوقاتنا المعاصرة فهناك بعضاً ممن أتقن علماً من العلوم وتهيأ له وإذا به يدرس في الجامعة وإذا بشيخه وأستاذه الذي يدرسه في الجامعة في كلية شرعية يطلب منه أن يتعلم على يديه ذلك العلم الذي لم يأخذه وهنا يحصل التكامل وحصلت المصلحة المرجوة للأمة، فليس هناك فصام نكد بين الدين والدولة ولا يقال كذلك أن هناك دعاة قد هدى الله على أيديهم فئة من الناس وصلح بهم أحوال الكثير من المجتمعات يقال أنهم جهلة فالجاهل لا يصلح بأية حال من الأحوال .
وكل إنسان ناقص فان العلماء هم ورثة الأنبياء، فلا بد أن يعلم عن اليسير في طريق الدعوة وأن هذا أيسر له بدل من أن يسير بلا زاد من العلم ولا شك أنه سوف لا يكمل سيره ولا تؤتي دعوته ثمارها المرجوة، ولا بد أن يعلم سالك طريق العلم إنه إنما يحصل العلم ليدعو إلى الله عز وجل وليعلِّم الناس أمور الخير ويحذرهم عن أمور الشر، وحسبنا في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم المثال الأعلى في ذلك وحسبنا في سيرة علماء الأمة وائمتها من ضربوا المثل الأعلى في كل هذا، مثل ابن المبارك رحمة الله عليه كان تاجراً غنياً ثرياً مجاهداً فارساً مغواراً وحاجاً عابداً متألهاً ومعلماً ومذكراً ومرشداً وداعيةً وواعظاً ومنبهاً وجمع أمور من الخير عجيبة وفريدة، ولننظر إلى ابن تيمية رحمة الله عليه كان عالماً يدرس الناس ويبين الأخطاء ويرد على المبتدعة فلما جد الجد ودعا داعي الجهاد كان في مقدمة الصفوف رحمة الله عليه .
فالله أسال أن يجعلنا من أهل العلم والدعوة ،وأن يسلك بنا سبيل طلب العلم النافع الصحيح المشروع المفيد، وأن يسلك بنا طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يوفقنا بإذنه تعالى لما يحبه ويرضاه ،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمدصلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .