سلمى ابو جودة
لو رجعت لحظة واحدة إلي نفسها لشعرت أن حبها جريمة.. ورجلها مهرج عجوز.. كلما لمحه الناس معها قذفوه بالسخرية والشتيمة.. لقد سرق منهم لؤلؤة جميلة.. فلم يبق منها سوي
خبر مثير في جريدة قديمة.
لو رجعت لحظة واحدة إلي نفسها لشعرت أن حبها حماقة كبيرة.. ورجلها حاو يخرج من جيوبه الأرانب الصغيرة.. منحها فرصة حقيرة.. حرقت بعدها ضفائرها البريئة.. وصارت نعجة غريرة.. تخاف دائما من اللحظات الأخيرة.
لو رجعت لنفسها لحظة واحدة لشعرت أن حبها سيرة رديئة.. تمضغها نساء المدينة القديمة.. ورجلها جلاد يذبح فريسته علي فراش السلطة الوثيرة.. وقد سبب لها نزيفا في القلب.. تجد آثاره علي ثيابها كلما مارست المتعة الرفيعة.
أصرت نسرين القيعي علي أن أكتب ما جري لها شعرا قبل أن أروي حكايتها نثرا.. كان شرطها الوحيد أن أحس بها للدرجة التي لا تستطيع بعدها أن تقاوم.. أو تساوم.. أو تناور.. لتفتح بعدها نوافذها.. وتسقط ملابسها.. وتعري تاريخها.. وتعترف بكل أسرارها.
كانت تجربة إنسانية غريبة.. أن تأتي نجمة تليفزيونية شهيرة نادرا ما تتكلم عن أعمالها إلي مكتبي فجأة وتطلب مني أن أرسم بقلمي اللوحات السوداء في حياتها.. لعلها تتخلص من الألم المتجمد داخلها.. وتتطهر من الرجس الذي لا يفارقها.. لكنها اشترطت أن تختبر قدرتي علي الإحساس بها قبل أن تختبر موهبتي في التعبير عنها.
ـــ سأجلس صامتة أمامك نصف ساعة.. لن أتحرك.. لن أتكلم.. أنظري إلي ملامحي.. شقي صدري.. أخرجي قلبي.. لن أرمش.. لن أهتز.. كأني مت.. بعدها سأتركك للتعبير شعرا عما وصل إليك فإن صدقته.. تكلمت.. وإن كذبته.. اختفيت.
لا أتصور أن كاتبا تعرض لمثل هذا الاختبار الذي لا ينجو منه إلا أهل الفراسة.. نظرة طويلة صامتة منهم كفيلة بقراءة الشخصية.. نظرة ثاقبة تحول الملامح إلي لغة.. يقرأها اسرع من يشعر بها أكثر.. وتتضاعف مفرداتها ويتضخم قاموسها كلما تجاوزت النظرة الملامح وتوغلت في الأعماق.
شيء ما شدني لقبول التحدي.. ربما خوفي من سقوط هيبة الكاتبة أمام موهبة الممثلة.. ربما لأنني لن أخسر شيئا.. ولو كسبت فقد فزت بقصة لابد وأن تكون مثيرة مثل غالبية قصص النجوم.. ربما لأن من السهل قراءة باطن نسرين القيعي من ظاهرها.. فعيناها علي اتساعهما لا يشعان دفئا.. وشفتاها رغم اكتنازهما لم يعبرا عن نفسيهما بقبلة تضاعف من تورمهما.. وجبهتها رغم عرضها تبدو منكسرة.. وجفونها المغطاة بألوان المكياج تشي بتاريخ طويل من السهر والضجر.. هذه امرأة في حياتها تجربة مبكرة.. مريرة.. لم تعرف بعدها طعم لهفة الحب.. أو لذة الجنس.. وهي لا تحتاج إلي أن تروي قصتها.. ولكنها في حاجة للشفاة من مآساتها.
كنت واثقة أنها جاءت لتتكلم.. لتكشف.. لتتعري.. لتتطهر.. سواء استسلمت لشعري أم لفظته.
لا تعرف سر بقع الدم التي ودعت بها طفولتها وأجبرت بها علي استقبال أنوثتها هل هي العلامة السماوية التي تظهر دون موعد لكل البنات.. أم أنها نزيف الجرح الذي استيقظت عليه وهي تجد رجلا ضخم الجثة عاريا في فراشها؟.
إنها حتي لا تتذكر اسمه.. عبدالجبار.. عبد القهار.. صدام.. هدام.. ولكنها تتذكر لغته الغريبة التي عرفت فيما بعد أنها لكنة عراقية.. أما باقي ملامحه فغائمة.. غوريلا.. فراء خروف من الصوف الأسود.. عيون حمراء كأنها فرن يضئ بنيران جائعة.. أصابع تحولت إلي مخالب.. أو حوافر.. وشعر تجمع في طرفي الرأس حتي صار قرني شيطان.. حيوان خرافي لم تره من قبل.. لم تجرؤ أن تصرخ في وجهه.. خافت أن يبتلعها.. وعندما راح يرتدي ملابسه جرت مسرعة إلي أمها.
في تلك الليلة وضعت أمها فراشا من القطيفة الحمراء في سريرها.. أعجبها ملمس القطيفة.. لكن.. لم يعجبها أن تأخذ منها عروستها.. إنها لم تكبر كما سمعت من أمها.. لا تزال تهوي الطائرات الورقية علي شاطئ البحر.. لا تزال مجنونة بلعبة الاستغماية.. لا تزال سريعة الاستسلام للرقص أمام موسيقي الراديو.. لكن.. أمها أصرت علي حرق عروستها.. وتكسير طائرتها.. وحرمانها من الاستغماية.. بل إن أمها في تلك الليلة نسيت أن تضع يدها علي جبهتها وتقرأ لها ” قل أعوذ برب الفلق “.. فجاء شر ما خلق.
وجدت أمها تبتسم وهي تفتح أحضانها وتأخذها فيها.. ربتت علي ظهرها ومسحت علي شعرها.. وغطت جسدها العاري النحيف الخالي من البروز بأوراق مالية لم ترها من قبل.. دينارات عراقية.. وتناثرت علي أرضية الغرفة فاكهة شهية لم تلمسها من قبل.. تفاح.. مانجو.. تين.. موز.. وكريز.. بجانب علب من الكرتون تكشف عن ملابس ناعمة فيها.
كان ثمن طفولتها وبراءتها وبكارتها خمسة آلاف دينار قبضتها أمها من ضابط عراقي يتدرب في البحرية المصرية.. اصطادته الأم وهي جالسة ذات صباح وهي تنتظر رزقها في مقهي تريانون.. لقد هرب زوجها منذ سنوات تاركا لها نسرين قطعة لحم أحمر.. وقائمة طويلة من الديون تهددهما بالطرد من البيت.. والفضيحة في الحي.. والنميمة علي كل لسان.. فما الفرق أن نفقد شرفنا علي الفراش أو نفقده علي لسان الناس.. الشرف قيمة معنوية لو لم نشعر بها.. لا مبرر للحفاظ عليها.. لو أصر الناس علي أنك كاذب.. أكذب.. لو أصروا علي أنك سارق.. أسرق.. لو أصروا علي أنك قاتل.. أقتل.. لو قاومتهم.. سحقوك.. ولو اعترضت عليهم.. قضوا عليك.
عاشرت الأم عبد الجبار هدام.. واحد من عائلة صدام حسين.. ورجل من رجاله المقربين.. كان ينفق عليها بسخاء ورخاء.. نقلها من حي بحري إلي حي سموحة.. لكنه.. في تلك الليلة التهم ابنتها.. ودفع الثمن.. والغريب أنها لم تهتز.. ولم ترفض.. وجلست في حجرتها تنظر للثروة التي جنتها.. وتنتظر الذبيحة التي ربتها.
فاحت سمعة الأم في سوق الدعارة.. وجذبت رائحة ملابسها الداخلية الكلاب البوليسية التي راحت تشمشمها لتقبض عليها.. لكن.. الأم التي نالت خبرة الاحتراف في ترتيبات المتعة الحرام نجت من عشرات الكبسات وخرجت لضباط الآداب وهي في ملابس الصلاة البيضاء وبين يديها كتاب الله.. وحتي تكتمل الصورة المزيفة لم تعد تترك بيتها إلي الشارع إلا بالحجاب.. ستر وغطاء.. بل إن الحجاب كان يرفع سعرها ويحرم الزبائن من مساومتها.. علي أن حمايتها الحقيقية كانت شخصية أمنية مؤثرة ونافذة.. اقتسمت معها المتعة.. ثم اقتسمت معها الأجر.. اصبحا شركاء في الفراش.. وفي البيزنس.
ولفتت نسرين الأنظار.. لقد نضجت قبل الأوان.. وقفز سعرها في بورصة الليل إلي أعلي رقم عرفته الإسكندرية لفتاة لم يزد عمرها علي سبع عشرة سنة.. عشرة آلاف دولار في الساعة.. وكان زبائنها في البداية شيوخاً من دول النفط.. ورجال أعمال من الوجوه المعروفة.. وتجار مخدرات كانوا يصرون علي ورقة زواج عرفي قبل أن يدخلوا بها.. ولم تكن تشعر بشيء.. لم تكن تصل للنشوة.. بل ربما كانت تشعر بينها وبين نفسها بالبرود.. ولولا موهبة التمثيل التي تتمتع بها لما وجدت من يقربها.. فلا رجل مهما كانت همجيته يقبل أن ينام مع تمثال من الرخام الساقع ولو كان لفينوس.. آلهة الجمال والسحر.
المرة الوحيدة التي شعرت بانوثتها كانت مع صحفي معروف.. هو ثروت حسنين.. قابلها مصادفة في فندق شيراتون المنتزه وسط جمهور جاء يشاهد نجوم مهرجان السينما الذين تعودوا السهر في كافتيريا الفندق.. ترك الصحفي المحترف النجمات والتقطها.. وقبل أن يفكر في إغوائها عرضت عليه الصعود معه إلي غرفته.. فقد شعرت بأن كل من حوله يخطبون وده.
ضمدت خبرته في التعامل مع المرأة كثيرا من الجراح القديمة التي لم تشف منها.. لم يعاملها كذبيحة.. فلم تطرتش عليه دماءها.. عاملها كثمرة مانجو فمنحته حلاوتها.. وأخرجت عسلها.
كانت المرة الأولي في حياتها الخفية التي تعرف فيها أن للقبلة طعما.. وللمسة معني.. وللالتصاق رعشة.. وأسعدها كثيرا أن تظل عارية.. فلم تهرع كما تعودت علي ستر نفسها بملابسها.. بل إنها شعرت بمتعة هائلة وهي تتأمل جسمها.. وتنظر جيدا إلي ملامحها.
في تلك الليلة روت له ما جري لها.. وقفت في البالكونة الصغيرة تنظر إلي البحر وتتكلم بلا توقف حتي خرجت الشمس من بيتها المائي الذي تعيش فيه أحيانا مع الجنيات.. أما هو فلم يجد مبررا لمقاطعتها.. أو لتكذيبها.. فقد كان يفكر في تدبير شقة تجمعهما معا كلما جاء إلي الإسكندرية.. لكنه.. فجأة.. خطرت بباله فكرة.. فسارع كعادته في التعبير عنها: ـــ نسرين.. أنت موهوبة في التمثيل.. سوف…
قاطعته وقد استرد الحزن سيطرته علي ملامحها:
ـــ أنت لا تصدقني.. لا أمثل عليك.. ما أرويه لك….
قاطعها وهو يقترب منها ويحتضنها من الخلف: ـــ لا أقصد.. أنا جاد فيما أقول.. كل ما فيك يصلح للسينما.. غدا.. ليلا.. سنتعشي معا مع مخرج تليفزيوني صديق.. سوف أقدمك إليه.. وقطعا سوف يتحمس لك.
لكن.. ذلك العشاء لم يأت.. فقد اقتحمت شرطة الآداب عصر اليوم التالي بيت أمها وقبضت عليها متلبسة بجريمة الدعارة.. ولم يشفع لنسرين أنها كانت نائمة وحدها.. تحلم بالمجد الفني الذي ينتظرها بعد ساعات.. وعندما سألت الأم عن صديقها وشريكها الباشا في مديرية الأمن عرفت أنه نقل إلي جنوب سيناء.
حفظت النيابة القضية ضد نسرين.. لكن.. أمها سجنت ستة شهور.. وتلوث سجلها الشخصي بما يصعب علي الناس قبوله.. وطوال تلك الشهور الصعبة ظلت نسرين قابعة في بنسيون صغير تديره بقايا سيدة إيطالية كانت عائلتها قد هاجرت إلي الإسكندرية قبيل الحرب العالمية الأخيرة.. انعزلت نسرين عن الناس.. بدقة أكثر خافت منهم.. ولم يكن أمامها سوي أن تظل في حجرتها الضيقة تقرأ كل ما تشتري من صحف يكتب فيها أو لا يكتب الرجل الوحيد الذي أحبته.. ثروت حسنين.. وإن لم تبحث عنه.. أو تتصل به.. خشيت أن يلفظها.. وأن يكذب كل ما روته له في تلك الليلة النادرة من عمرها.
لم تخرج إلي النور إلا عندما خرجت أمها إلي الحرية.. لكن.. ما أن استقبلتها أمام بوابة السجن وقبلتها وحضنتها ودست في يدها بعضا من المال حتي توارت عنها واختفت منها.. وركبت أول قطار متجه إلي القاهرة.. وراحت تسأل عن الصحيفة التي يعمل بها ثروت حسنين وهي تضع يدها علي قلبها.. خوفا من أن يطردها.
استقبلها بترحاب كمن يعثر علي قطعة لحم شهية وهو جائع وأخذها من يدها إلي مزرعة بعيدة في المنصورية يمتلكها أحد أصدقائه.. لم يكن يفكر إلا في جسدها.. هذه طبيعته التي خلقه الله عليها.. لا يحب المرأة ولا يسمعها ولا يصدقها إلا إذا ضاجعها.. الجنس هو جهاز كشف الحقيقة من الكذب.. ولو صدقها وهما في الفراش فإنه يصدقها وهما بعيدا عنه.
وفي مساء اليوم التالي كانا معا علي مائدة العشاء التي تأخرت ستة شهور مع المخرج السينمائي الذي وجد فيها مزيجا من الرومانسية والإثارة الجنسية التي تتمتع بها نجمة لم تأخذ حقها في الشهرة مثل نرمين الفقي.. أو مثل نجمة خطفها الموت قبل أن تنال ما تستحق.. مثل مديحة كامل.
لكن.. الأهم من السينما صورتها التي ستقدمها للناس.. لابد من اختراع شخصية تصدقها الصحافة كي تستقبلها بحفاوة.. وراح الصحفي المحترف يرسم لها تلك الشخصية.. جذورها.. ثقافتها.. أقاربها.. ملابسها.. مكياجها.. وخرجت من صفحات الخيال شخصيتها تنتمي لعائلة من السفراء.. قضوا معظم وقتهم في الخارج.. وأمام غموضها.. وصمتها.. صدقها كل من سمع عنها.. وتقرب إليها المنتجون والمخرجون والصحفيون والمسئولون.. وفي شهور قليلة دخلت بلاتوهات مسلسلات التليفزيون ولم تخرج منها.
نجحت نسرين القيعي في إخفاء حقيقتها ببراعة مذهلة حتي عن الرجل التي فتح أمامها طريق الشهرة والثروة.. تقمصت دور بنت خال السفير فكان أفضل دور مثلته في حياتها.. هو دور عمرها الذي درسته.. واتقنته.. وتعبت في البحث عن ملامحه وعاداته ومصطلحاته.. بل إنها حفظت تدرج الوظائف الدبلوماسية.. وعرفت الفرق بين السفير والقائم بالأعمال.. بين ملحقين يأتون من وزارة الخارجية وآخرين يأتون من وزارات أخري.. ونجحت في التعرف علي زوجة سفير سابق أدعت أنها من عائلتها.. ومن شدة إخلاصها لها.. لم تكذبها تلك السيدة.
وربما يفسر ذلك أنها أقل نجمات جيلها كلاما في الصحف أو ظهورا علي شاشات البرامج التليفزيونية.. قلة الكلام منتهي الأمان.. واكتفت بعدد محدود من محرري الصفحات الفنية.. تدفع لهم رواتب شهرية.. لينشروا أخبارها علي لسانها وكأنها هي مصدرها.. خاصة.. أن ثروت حسنين لم يشأ أن يظهر في الصورة معها.. لقد أخذ بيدها وعبر بها الطريق.. وخشي عليها من أن يلتصق اسمها به وهو الكاتب السياسي الذي تفتش له الحكومة عن فضيحة.. وإن لم يمنعه ذلك من أن يلتقي بها بين الحين والآخر.. في أماكن مختلفة حتي يهرب من كاميرات ومراقبات الأمن السرية.. لكنها بعد أن نالت شهرة عريضة لم يكن أمامه سوي أن يلقاها خارج البلاد.. في دولة أوروبية.. لا يعرفهما فيها أحد.. ويوما بعد يوم قلت فرص السفر.. وتباعدت اللقاءات.. وفترت العلاقة.. ولم تعد أكثر من تليفون عابر بين الحين والآخر.
لكن.. ذات يوم.. فوجئت به يطرق بابها في منتصف الليل.. وقبل أن تبدي دهشتها من زيارته المباغتة.. القي في وجهها عدة أوراق.. فهمت بغريزتها أنها محاضر قضية الآداب.
لم يغضبه أنها اتهمت في قضية تورطت فيها أمها.. ما أغضبه أنها أخفت عنه ذلك.. إن الصحفي الذي لا ينام إلا بعد أن يعرف كل ما جري في المجتمع اكتشف أنه بالنسبة لأقرب الناس إليه آخر من يعلم.
في تلك الليلة كانت علي وشك أن تدخل فراشها.. فلم يكن علي وجهها مساحيق.. ولم يكن علي جسدها عطور سوي صابون الحمام.. وكان قميص نومها بسيطا من القطن المنقوش برسومات بريئة.. كانت رغم ثورته امرأة أخري غير التي صنعها علي الشاشة.. فنسي غضبه.. واسترد لباقته.. وفاحت الرغبه في صوته.. واقترب منها يقبلها.. لكنها.. لم تستجب.. رفضته.. المرة الأولي التي رفضت فيها رجلا.. أصبح من حق جسدها ألا يستجيب لكل من يمد يده إليه.. أصبح من حقه أن يقول لا ولو للشخص الوحيد الذي يجب أن يقول له نعم.. في تلك اللحظة تغيرت نسرين القيعي.. ولم تعد تردد كثيرا قصة عائلة السفراء التي تنتمي إليها.
بقيت نسرين القيعي متسترة وراء تحفظها وصمتها وقلة اختلاطها وخلق مسافة كافية من التعالي بينها وبين الوسط الفني.. فلا يعرف أحد العمل الذي تستعد لتصويره.. ولا يصل أحد للرجل الذي تذهب إليه.. وبعيدا عن أطقم الفنيين لم يكن أحد يعرف أين تقيم.. وضعت نفسها في شرنقة من الابتعاد.. سمحت لها بأن تدخل في علاقات ثمينة مع أثرياء لا يتمتعون بالشهرة.. وكونت ثروة يصعب كشفها من المجوهرات.. وعلي عكس زميلاتها من النجمات كانت تدعي أن الماس الذي يبرق بين أصابعها وعلي صدرها وفي أذنيها غير حقيقي.
لكن.. حادث ما وقع وضع تحتها خطا أسود وآخر أحمر رغم كل حرصها القوي علي الإخفاء.
كانت تعمل في مسرحية خفيفة الظل عندما قرر منتجها السفر إلي العراق للمشاركة في تحطيم الحصار الذي فرض علي أهله بعد حرب الخليج الثانية التي حررت الكويت من قوات صدام حسين التي احتلتها ذات يوم شديد السخونة من أغسطس 1990.. وفي الوقت نفسه يكسب المنتج أموالا تعوضه الخسائر التي سببتها تلك الحرب بعد أن اثرت علي السياحة العربية في مصر.
وسمعت من المصريين هناك قصة الفنانة المصرية التي جاءت إلي العراق في بداية الستينيات وسألها موظف الجوازات عن معني كلمة فنانة المكتوبة أمام خانة المهنة.. وبعد أن طال شرحها له.. قال الموظف وهو يهز رأسه بحسم يحسد عليه: ” تقصدين عاهرة “.. واسقطت في يدها.. وشعرت بالإهانة.. ورفضت الدخول.. لولا أن قدم وزير الإعلام العراق اعتذارا رسميا لها وصحبها من قاعة الشرف التي يستقبل فيها الشخصيات المهمة.
لم تعد الفنانة عاهرة في عرف العراقيين.. لكن.. ذلك لم يمنع أن سيارة سوداء مغطاة بستائر سوداء جاءت إليها بعد العشاء لتحملها من الباب الخلفي لفندق الرشيد إلي مزرعة مجهولة في جنوبي بغداد وأمامها وخلفها سيارات مصفحات تتبع الشرطة العسكرية.. وكأنها وزير دفاع دولة أجنبية جاء للمساعدة في الحرب وفك الحصار بطريقة مسلحة.
كان كل من في الموكب المكون من خمسين سيارة وسبعين حارسا يعرفون أنهم في طريقهم إلي القائد والزعيم والثائر والمناضل والبعثي والقومي صدام حسين.. إلا هي.. شعرت أنها ستلقي شخصية مهمة.. لكن.. خيالها لم يصل إلي تلك الرتبة الرفيعة.. مالك العراق ومن عليها.
لم يضيع أبو عدي وقتا.. فقد كان يقف في جناح النوم وهو يرتدي روبا من الستان الأحمر علي اللحم.. وفي يده سيجار كوهيبا من الحجم الضخم مشتعلا.. وأمامه كأس من الكونياك الفرنسي.. بجانب حلوي وفاكهة واقراص مختلفة الألوان.. ربما منها الفياجرا التي حاولت المخابرات الأمريكية قتله بقرص مسموم منها بعد أن عرفت شركة الأدوية التي يشتريها منها في العاصمة الأردنية.. عمان.
مشهد فاجأها وهي تدخل المكان الذي سيطر عليه اللون الأحمر.. الإضاءة.. الفراش.. الستائر.. والدم الذي يجري في عروقها وهرب منها.. مشهد ذكرها بما جري في طفولتها في لحظة فقدان براءتها بخشونة ذلك الطيار العراقي الذي اغتصبها وهي غائبة عن الوعي.. إنهما نفس الشخص.. فهل كان الطيار هو نفسه القائد؟.
فكرت أن تمسك بسكين الفاكهة وتقتله.. تمنت الهرب من أمامه.. لكنها.. أدركت أنه لا مفر.. إما أن تغتصب من جديد أو تقتل وتدفن في ذلك المكان المجهول.. وخلعت ملابسها.. ورقدت عارية.. في انتظار الجزار كي يذبحها مرة أخري.
ولابد أن يخرج القائد مهزوما من المعركة.. فالرجل الذي يعاشر جثة هامدة لا ينجح.. والحاكم الذي يدير أمة ميتة يصبح مثلها ولو طال الزمن.
كانت مكافأتها ركلة علي ظهرها.. وبصقة علي ما بين فخذيها.. وصفعة علي وجهها.. وفي الليلة التالية عرضت المسرحية بدونها.. بممثلة كومبارس في الفرقة.. فقد صدر قرار جمهوري بترحيلها فورا.. ومنعها من دخول العراق مرة أخري باعتبارها عميلة للمخابرات الأمريكية توارت وراء صفتها الفنية للتجسس علي القائد راعي الفن الذي كشف أمرها بعد ساعات قليلة من وصولها.. ورغم أن ذلك لم يعلن في بيان رسمي إلا أن مخبري النظام من العراقيين والمصريين لم يكفوا عن ترديده