بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله الطيبين الطاهرين وعلى صحبه الغر الميامين وسلم تسليما كثيرا
اما بعد :
" طلب العلم فريضة على كل مسلم " .
العلم.. هذا النور الذي يهدي الله به في
مسالك الأرض، وينير لهم السبيل: " إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم
يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة" .
العلم.. تلك النافذة الضخمة المفتوحة على " المجهول " والشعاع النافذ إلى الظلمات.
العلم.. تلك الطاقة الهائلة التي يمد
بها الإنسان حياته، ويوسع كيانه، فلا ينحصر في ذات نفسه، ولا ينحصر في
واقعه الضيق القريب، ولا ينحصر في جيله الذي يعيش فيه. بل لا ينحصر في
محيط الأرض. وإنما يشمل هذا كله ويزيد عليه، فينفذ إلى الماضي، ويحاول أن
يفهم المستقبل على ضوء الحاضر، ويرقب الكون على اتساعه من خلال مناظيره
ونظرياته.. وينطلق.. كما تنفلت " المادة " المحسوسة من نطاقها الضيق وتصبح
شعاعاً يدور في الآفاق.. " الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث
في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء..
كتب الاستاذ الداعية والمفكر الاسلامي (( محمد قطب )) جزاه الله الجنة ... في كتابه (( قبسات من الرسول )) :
كان للعلم في نفوس الناس قداسة كقداسة
العقيدة. قداسة تشمل المعلم كما تشمل الطلاب. كلاهما يحس بالرهبة، ويحس
بالتقوى، ويحس بالنظافة، ويحس بالراحة والفرحة في رحاب الله.
إنه واجب مقدس، يؤدى " من الداخل ". يؤدى من الأعماق.
الأستاذ يحصّل العلم لأنه فريضة. ويؤديه إلى الناس لأن أداءه فريضة كذلك.
والطلاب يسعون إلى طلبه، كما يسعون إلى المسجد للصلاة.
كلاهما مخلص وكلاهما نظيف.
والمحصول العلمي الذي خلفه أولئك
المسلمون - سواء أعجبنا اليوم ونحن ننظر إليه بعقلية المعارف الحديثة أم
لم " نتفضل " عليه بالإعجاب - محصول يشهد بالجهد الصادق العنيف الذي بذل
فيه..
لم يكن واحد يؤلف ليكسب! يكسب الشهرة أو يكسب النقود! وإنما يؤلف لأنه بحث وجد واستنبط، فوصل إلى " شيء " فأذاعه على الناس.
و " الانقطاع " للعلم كان وحده دليلاً على هذا الصدق الذي لا تفسده الأغراض.
ولم يكن الصدق والإخلاص هما السمة الوحيدة في " علم " المسلمين. فذلك لا يستنفد كل معاني " الفريضة "!
وكذلك أحس المسلمون. أحسوا أن في
رقابهم، ديناً لله يؤدونه. فهو قد وهب لهم " الحكمة " و " المعرفة ". وهب
لهم العقل الذي يفكر ويكتشف ويستنبط. وهب لهم القدرة على الاستفادة من
التجربة. وهب لهم ذلك الشعاع العلوي الذي لم يكن ليوجد لولا أن الله نفخ
في الإنسان من روحه.. فعليهم لقاء ذلك دين. هو الشكر. الشكر لله المنعم
الوهاب.
ومن ثم كان العلم يزيدهم إيماناً. ويزيدهم تعلقاً بالله:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ) [9].
تلك روح المؤمن الذي " يتعلم ". الذي
يتفكر في خلق السماوات والأرض. ويصل من تفكره ذلك إلى قوانين ونظريات
وحقائق وتطبيقات، تزيد " معلوماته " وتفيده في تعميره الأرض وهو يمشي في
مناكبها ويأكل من رزق الله [10] فيدعوه ذلك كله إلى معرفة الله. ومعرفة "
القصد " في خلق السماوات والأرض. القصد " الحق ": (مَا خَلَقْتَ هَذَا
بَاطِلاً) فيسبح الله. ويتقرب إليه. ويتوقى النار ويطلب تحقيق وعد الله
بالنعيم: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ
أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا
وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [11].
ولم يحدث في التاريخ الإسلامي أن
عالماً يبحث في الطب أو يبحث في الفلك أو يبحث في الطبيعة أو يبحث في
الكيمياء.. وجد نفسه معزولاً عن العقيدة، أو وجد أن العقيدة تعطله عن
البحث العلمي الدقيق! ولم تقم الحرب والخصومة في قلب مسلم بين العلم
والعقيدة أو بين العلم والدين. وإنما عاش العلم في ظلال العقيدة يتقدم
وينشط، ويصل إلى كشوف علمية هائلة، أقر بها المتعنتون أنفسهم من علماء
أوروبا، دون أن يفترق الطريق لحظة أو يحدث الشقاق.
ذلك أن العلم كان " فريضة " إلى الله، تؤدى كما تؤدى الصلاة والصيام والزكاة! ))