يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الزمر: “خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالأرضَ بِالْحَق يُكَورُ الليْلَ عَلَى النهَارِ وَيُكَورُ النهَارَ عَلَى
الليْلِ وَسَخرَ الشمْسَ وَالْقَمَرَ كُل يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفارُ. خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُم جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ
لَكُم منْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبكُمْ لَهُ الُملْكُ لَا إِلَهَ إِلا
هُوَ فَأَنى تُصرفُونَ”.
في هذه الآيات الكريمة يقيم الحق سبحانه المزيد من الأدلة على وحدانيته وقدرته عن طريق التأمل في ملكوت السماوات
والأرض وفي ظاهر الليل والنهار وفي تسخير الشمس والقمر، وفي خلق بني آدم من نفس واحدة.
فقوله تعالى “خلق السماوات والأرض بالحق” تفصيل لبعض أفعاله الدالة على وحدانيته سبحانه وقدرته. أي: الله وحده
هو الذي أوجد هذه السماوات وتلك الأرض، إيجادا ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة التي تعود عليكم أيها الناس بالخير
والمنفعة ومن كان شأنه كذلك، استحال أن يكون له شريك أو ولد.
نظام محكم
ثم ساق سبحانه دليلا ثانيا على وحدانيته فقال: “يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل”، والمقصود أن الليل
والنهار كليهما يكر على الآخر فيذهبه ويحل محله، بطريقة متناسقة محكمة لا اختلال معها ولا اضطراب.
قال صاحب الكشاف: “والتكوير: اللف واللي يقال: كار العمامة على رأسه وكورها”.
ثم ذكر سبحانه دليلا ثالثا على وحدانيته وقدرته فقال: “وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى”.
والتسخير: التذليل والانقياد والطاعة التامة، أي: وجعل سبحانه الشمس والقمر منقادين لأمره انقيادا تاما، وكلاهما يجري
في مداره إلى الوقت المحدد في علم الله تعالى لنهاية دورانه، وانقطاع حركته.
وهما في جريانهما يسيران بنظام محكم دقيق غاية الدقة، كما قال تعالى: “لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر. ولا الليل
سابق النهار. وكل في فلك يسبحون” ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: “ألا هو العزيز الغفار” أي: ألا إن الله تعالى
وحده الخالق لكل تلك المخلوقات، وهو وحده المتصرف فيها، والمهيمن عليها وهو وحده “العزيز” الغالب على كل ما
سواه، الكثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه توبة نصوحا.
نفس واحدة
ثم ساق سبحانه أدلة أخرى على وحدانيته فقال “خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها”. أي خلقكم سبحانه من نفس
واحدة هي نفس أبيكم آدم ثم خلق من هذه النفس الواحدة، زوجها وهى أمكم حواء.
وقوله تعالى: “وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج” بيان لبعض آخر من أفعاله تعالى الدالة على وحدانيته وقدرته.
أي: وأنزل من كل من الإبل والبقر والغنم والماعز زوجين: ذكرا وأنثى يتم بهما التناسل وبقاء النوع.
وقوله تعالى: “يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث” بيان لكيفية خلق ما خلقه الله من الأناس
والأنعام بتلك الطريقة العجيبة.
أي انه تعالى يخلقكم أيها الناس بقدرته في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، بأن يحولكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى
عظام مكسوة باللحم، ثم يحولكم بعد ذلك إلى خلق آخر، وهذه المراحل كلها تتم وأنتم في ظلمات بطون أمهاتكم وظلمات
الأرحام التي بداخل البطون، وذلك كله من أقوى الأدلة على قدرة الله تعالى ورعايته لخلقه.
وصدق الله إذ يقول: “ألم نخلقكم من ماء مهين. فجعلناه في قرار مكين. إلى قدر معلوم. فقدرنا فنعم القادرون”.
وقوله تعالى: “ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنّى تصرفون”. معناه ذلكم العظيم الشأن الذي ذكرنا لكم بعض مظاهر
قدرته، هو الله ربكم الذي له ملك كل شيء، والذي لا معبود بحق سواه، فكيف تُصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، وكيف
تزعمون أن له شريكا أو ولدا. مع توفر الأدلة على بطلان ذلك؟