لقد كان أولئك الشباب مع منزلتهم العالية لدى النبي صلى الله عليه وسلم يتمتعون بخلق عال ورفيع، ولا غرو فهم تلامذة معلم البشرية الأول صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وألطفهم سريرة وقد تعلموا منه صلى الله عليه وسلم أن خيار الناس أحاسنهم أخلاقاً.
ولهم أسوة حسنة في النبي صلى الله عليه وسلم إذ يصفه أحد الشباب من أصحابه وهو عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- فيقول: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وإنه كان يقول:« إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً»(رواه البخاري ومسلم). وقد أعلى صلى الله عليه وسلم منزلة حسن الخلق إذ سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال:«تقوى الله وحسن الخلق» وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال:«الفم والفرج»(رواه الترمذي وابن ماجة). وفي ظل ذاك الوسط الذي كان يعطيهم من الرعاية والعناية الشيء الكثير لم يكن ذلك ليفقدهم الوقار وحسن الخلق، ولم يكن ليوجد لديهم الكبر والجرأة على الأكابر، فمع نماذج من حسن خلقهم -رضوان الله عليهم-:- الحياء : فهاهو ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم :«مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحات» فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردت أن أقول: هي النخلة وأنا غلام شاب فاستحييت، فقال:«هي النخلة» وفي رواية: فحدثت به عمر فقال: لو كنت قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا(رواه البخاري ومسلم). ومثله سمرة بن جندب -رضي الله عنه- فهاهو يمنعه الحياء أن يسبق أصحابه بالتحديث فقال:«لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني، وقد صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها»(رواه مسلم). واليوم نرى أحدنا حين يعلم في مسألة ما لم يعلمه غيره يبادر إلى الحديث في المجالس، ولو كان غيره سيكفيه، إنها صورة من الرياء عافنا الله تبارك وتعالى منه. والحياء شعبة من شعب الإيمان، وهو خير كله، وحين يتحلى به الشاب يتسم بالوقار وهدوء الشخصية والاتزان، ويحمله على أن يدع ما يعاب عليه، ويأتي ما يمتدح به. وأولى ما يتخلق به الشاب من الحياء أن يستحي من ربه تبارك وتعالى أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره. حفظ السر : لقد كان صلى الله عليه وسلم يثق في شباب أصحابه، ويستأمنهم على أمور خاصة، وقد كانوا -رضوان الله عليهم- على مستوى المسئولية في ذلك. وتبقى تلك الأسرار إلى يومنا هذا قد ماتت مع موت أصحابها، وربما كان البعض منها مهمة إجرائية تتطلب الإسرار في وقتها، لكن البحث في حقيقة هذه الأسرار أمرٌ لا طائل وراءه، فلتبق هذه النصوص خير شاهد على حفظ أولئك للسر وعنايتهم به. عن أنس -رضي الله عنه- قال أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، قال فسلم علينا فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس:«والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت»(رواه مسلم). وفي رواية «أسر إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم سراً فما أخبرت به أحداً، ولقد سألتني عنه أم سليم فما أخبرتها به». وحفظ السر ليس خلقاً خاصاً بأنس -رضي الله عنه- فهذا عبدالله بن جعفر -رضي الله عنهما- يقول:« أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل ». وقد يحلو للبعض أن يتحدث عن بعض الأمور أو المهمات الخاصة التي تربطه ببعض الأكابر، ويصحب هذا الحديث رغبة في التعالي والارتفاع، وربما كان حديثاً فيما لا فائدة فيه، وربما انتهز الفرصة للحديث عن موقف، أو الاستشهاد بشاهد لا لشيء إلا ليذكر صلته ببعض الأكابر، وهو خلق علاوة على ما فيه من إضاعة للسر، يعكس إعجاباً بالنفس، وتشبعاً للمرء بما لم يعط، أما شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلهم شأن آخر. خدمة القوم : عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال:«أنفجنا أرنباً بمر الظهران فسعوا عليها، حتى لغبوا، فسعيت عليها حتى أخذتها، فجئت بها إلى أبي طلحة، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركيها أو فخذيها فقبله». وفي رواية :«كنت غلاماً حزوراً فصدت أرنباً، فشويتها فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بها فقبلها». وحين كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محرمين لا يحل لهم الصيد صاد لهم أحد الشباب حماراً فأطعمهم إياه، وأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنستمع إلى قصته:- فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة، فقال:«خذوا ساحل البحر حتى نلتقي»، فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا أنأكل لحم صيد ونحن محرمون، فحملنا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال:«أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟» قالوا: لا، قال:«فكلوا ما بقي من لحمها»(رواه البخاري ومسلم). وهكذا نرى أنه في ميادين السفر والجهاد يهب الشبان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للخدمة والقيام بحقوق إخوانهم فمع موقف آخر لأحدهم هو جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- إذ يقول:- سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانت عشية ودنونا ماءً من مياه العرب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من رجل يتقدمنا فيمدر الحوض فيشرب ويسقينا؟» قال جابر: فقمت فقلت: هذا رجل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أي رجل مع جابر؟»، فقام جبار بن صخر، فانطلقنا إلى البئر فنزعنا في الحوض سجلاً أو سجلين، ثم مدرناه ثم نزعنا فيه حتى أفهقناه، فكان أول طالع علينا رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال:«أتأذنان؟» قلنا نعم يا رسول الله، فأشرع ناقته فشربت شنق لها فشجت فبالت، ثم عدل بها فأناخها، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فتوضأ منه. إن خدمة الرفاق والقيام بشأنهم خلق رفيع وأدب جميل، والشرع قد جاء بالثناء على محاسن الأخلاق وذم مساوئها. بل قد جاء بالثناء على هذا الخلق بالذات يرويه لنا أحد الشباب من الصحابة هو أنس -رضي الله عنه- فيقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، أكثرنا ظلاً الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«ذهب المفطرون اليوم بالأجر». الكرم والسخاء : إن هذه الأمة لها نسب وصلة بإبراهيم عليه السلام، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا في القرآن في أكثر من موضع قصته مع أضيافه وإكرامه لهم حين نحر لهم عجلاً حنيذاً. ويحدثنا أحد الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة الكرم من الإسلام فعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال:«تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». ويربط صلى الله عليه وسلم الكرم وأداء حق الضيف بالإيمان بالله واليوم الآخر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت». ووصف عرابة بن أوس -رضي الله عنه- أنه كان كريماً جواداً، كان يقاس في الجود بعبد الله بن جعفر وبقيس بن عبادة. ومضى في الإنفاق في سبيل الله خبر جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- في إضافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الخندق. الإحسان للناس : إن البعض ممن يحسن خلقه قد يرجو من الناس ثمناً مقابل ما يقدم، أو تدفعه المجاملة للناس إلى مثل هذه المواقف، أما أصحاب الخلق الصادق، الصادر من قلوبهم، الذين يدركون عظم منزلة الخلق الحسن عند الله سبحانه وتعالى فلهم شأن آخر. فيمتد الخلق الحسن عندهم في التعامل مع الناس إلى ما بعد مماتهم، فقد قدم شخص ليصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم فحين سأل عنه قيل إن عليه ديناً، فرق له أحد شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو قتادة -رضي الله عنه-، فعن عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً»، قال أبو قتادة: هو علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«بالوفاء؟» قال: بالوفاء، فصلى. وليس بغريب هذا الخلق على أبي قتادة -رضي الله عنه- وهو الذي ينظر المعسر ممن عليه له دين فعن عبد الله بن أبي قتادة أن أبا قتادة طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر، فقال: آلله؟ قال: آلله؟ قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه». كظم الغيظ : لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على طائفة من عبادة، ووصفهم بصفة من مكارم الأخلاق هي كظم الغيظ فقال ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)) (آل عمران: 133-134) . وحين تقرأ سير القوم فلن تعدم من أولئك الشباب من يتحلى بهذه الخصلة. قال سعيد بن عبد العزيز: «فَضَلَ شداد بن أوس الأنصار بخصلتين: ببيان إذا نطق، وبكظم إذا غضب». إن الناس في هذه الحياة المليئة بالمواقف المتلاطمة، والأهداف المتناقضة لا يعدم أحدهم أن يواجهه موقف يثير حميته ويستثير غضبه، ومن هنا كانت الشجاعة الحقة، وكان الرجل الشديد حقاً هو الذي يملك نفسه عند الغضب، لذا نبه صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى فقال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». ويصوره في الحديث الآخر تصويراً أكثر تفصيلاً فيقول : «تدرون ما الرقوب؟» قالوا: الذي لا ولد له، فقال: «الرقوب كل الرقوب، الرقوب كل الرقوب، الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً» قال: «تدرون ما الصعلوك؟» قالوا: الذي ليس له مال قال النبي صلى الله عليه وسلم :«الصعلوك كل الصعلوك، الصعلوك كل الصعلوك، الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً» قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما الصرعة؟» قالوا: الصريع قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصرعة كل الصرعة، الصرعة كل الصرعة: الرجل يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه»(رواه أحمد). يستطيع المرء أن يعلو صوته، ويشتد وعيده، ويرهب من حوله سورةَ غضبه، لكن يجب أن يعلم أن الانتصار الحقيقي، والشجاعة الحقة في كظم الغيظ، وهو سلوك يحتاج إلى أن تروض النفوس وتربى عليه، ولن يمكن غرسه في النفوس بمجرد الأمر والتوجيه. إن الشاب الحريص على تربية نفسه لابد أن يعنى بتعويدها على هذه الآداب، وأخذها بهذه السجايا، فحين يتقدم به العمر تتحول إلى جزء من حياته يصعب اقتلاعها بعد ذلك. القناعة وعفة النفس: ويضرب شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في القناعة وعفة النفس مع عظم الحاجة والفاقة التي كانوا عليها، فلنستمع من أحدهم -رضي الله عنه- إلى أحد مواقفه:- عن هلال بن حصن قال: نزلت على أبي سعيد الخدري فضمني وإياه المجلس، قال: فحدث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجراً من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه ائت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه وأتاه فلان فسأله فأعطاه، فقال: قلت: حتى ألتمس شيئاً، قال: فالتمست فأتيته، قال حجاج: فلم أجد شيئاً، فأتيته وهو يخطب فأدركت من قوله وهو يقول:«من استعف يعفه الله، ومن استغنى يغنه الله، ومن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه -أبو حمزة الشاك- ومن يستعف عنا أو يستغني أحب إلينا ممن يسألنا» قال فرجعت فما سألته شيئاً، فما زال الله عز وجل يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالاً منا