وانتقل إلى جانب مهمّ يهمّ الرجال والنساء معاً، ذلكم هو جانب
المعاملة الزوجية التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم
- أفضل الخلق أجمعين - وبين عائشة رضي الله عنها،
وهي مَن علمنا فضلها وخصائصها، جملة من الروايات
والقصص في معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة
تكشف لنا عما ينبغي أن يكون عليه الرجل مع زوجته،
وما ينبغي أن تكون الزوجة عليه مع زوجها.
الموقف الأول: حسن التودد
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مظهراً لكل جوانب الرقة
والحنان والمحبة والتودد لعائشة، ويشهد لذلك ما ورد في
الصحيح عن عائشة تقول:
" لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب
حجرتي، والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترني
بردائه ؛ لكي أنظر الى لعبهم، يقف من أجلي حتى أكون أنا التي
أنصرف فاقدروا قدر الجاريه الحديثة السن الحريصة على اللهو ".
فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو مَن هو في عظمته -
يتودد إلى عائشة، ويمكّنها من أن ترى بعض ما يدخل السرور
لنفسها ويقف لأجلها، حتى يكون رداء وساتراً لها،
ولا يتحرك حتى تنتهي من فرجتها ومطالعتها، ومن متعتها
وسرورها تلطفاً منه عليه الصلاة والسلام، ومراعاة لها ولسنها،
فما بال الرجال يأنفون عن أقل من هذا بكثير ! بل يستكثرون به
على أزواجهم، ويظنون أن في ذلك إذهاباً لهيبتهم، وأنه لا بد أن
يكون الواحد منهم متجهم الوجه، مقطب الجبين، ينظر بعينه
شزرا، وتتقد عينه جمراً وإن لم يكن كذلك فلا يكون رجلاً.
هذا لا شك أنه من فرط الجهل في أصول المعاشرة ؛ فإن الإنسان
قد يتوقى ويتحرز من الناس البعيدين أو الأغراب أما من تكثر
الخلطه معهم فلا بد أن تكون معه على لين وتودد وتلطف وعلى
ترسل في المعاملة من غير تكلف وعلى إبداء ما عندك دون حرج
؛ لأنك ستلقاه كل يوم فلو تحفظت وتحرجت وتهيبت ؛
فإنك لا تستطيع أن تستمر على ذلك، قد ترى الإنسان الآن عندما
تتعرف عليه أول أمره لا يتكلم معك في خاص أموره،
ولا فيما يتعلق ببعض ما يحترز منه من الدعابة والمزاح وكذا،
لكن إذا كثرت خلطته وعثرته بدا لك منه كل شيء،
فكيف يكون الرجل مع زوجته وهي أقرب الناس إليه وأكثرهم
عشرة له، ثم لا يتلطف ولا يتودد ولا يكون في سيرته معها
على ما هو طبعه وسجيته دون أن يكون متكلفاً ولا متجهماً.
الموقف الثاني: حسن الهجر
وكذلك من لطائف هذه المعاملة الزوجية ما ورد في الصحيحين
من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:
إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى !
أي أعرف الوقت الذي تكونين فيه غاضبة أو عاتبة علي،
فأولاً ليس هناك من غضاضة ولا جرم ولا كبيرة من الكبائر
أن تغضب المرأة على زوجها، لما قد يقع من أسباب الإختلاف
المعتادة في حياة الناس ولكن انظروا إلى أدب عائشة وإلى فطنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت له: كيف ذلك يا رسول الله ؟ أي كيف تعرف رضاي من
غضبي، فقال:
( إذا كنت راضية عني قلت: لا ورب محمد،
وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم )،
فقالت عائشة رضي الله عنها: أجل والله ما أهجر
يا رسول الله إلا اسمك.
فهنا يدل على أنه قد يقع ما يوجب الخلاف والنزاع، ولكن لا بد أن
يكون له حده فلا تتجرأ المرأة على زوجها وتشتمه ولا تنتقصه
ولا تذكره بما يسؤوه، ولا تنعته بما لا يحب ولا تصفه بما يكره،
ولا تنبزه بما هو عيب وإن كان فيه، لئلا توغل صدره وتجعل
كما نقول: " من الحبة قبة " ولئلا تنفخ في نار هذه الشحناء
البسيطة والمخالفة اليسيرة، فإذا بها تغدوا مشكلة كبيرة
وصراعاً عنيفاً لا يحل بسهولة.
ثم انظر إلى أدب عائشة رضي الله عنها وحسن تقديرها
وتعظيمها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع إشعارها بمرادها،
أليس المراد أن تشعره بأنها غضبى حتى يتلطف معها ؛
فإنها تشعره بأقل القليل الذي يغني عن غيره، فكانت تقول
إذا كانت غضبى: " لا ورب إبراهيم " وإذا كانت راضية تقول:
" لا ورب محمد "، وما أخطات في القولين كليهما،
وإنما أحسنت في الأدب، وانظروا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ما قال لها: إني أعرف أنك غاضبة ؛ ليقابل غضبها بغضب،
وإنما ليستل هذا الغضب ويدخل هذا المدخل اللطيف الودود المحب،
ويقول لها مداعباً وملاطفاً: أني أعرف هذه الحالة وهذه الحالة
وبيّن لها أنه قد بلغته رسالتها، وعرف مقصدها، وأراد أن يمحو
ما كان من سبب هذا الغضب.
الموقف الثالث: قبول الإسترضاء
ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال:
" استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا
عائشة ترفع صوتها عليه، فقال: يا ابنة فلانة - وهذه أساليب
للعرف عجيبة في تعاملهم هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن
راضياً عنها فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه،
فقال: يا ابنة فلانه نسبها الى أمها - ثم قال: ترفعين صوتك على
رسول الله صلى الله عليه وسلم !
فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها،
فقد أراد أبو بكر أن يتوجه لعائشة ليضربها ويعنفها ".
وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأبي البنت أن يربيها وأن
يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر
" فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها "،
مع إن النبي صلى الله عليه وسلم، هو - إذا صح التعبير -
المعتدى عليه، وهي التي رفعت عليه صوتها،
ومع ذلك حال بينها وبينه.
" ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه فجعل
النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها –
أي يترضى عائشة ويتلطف معها - ويقول: ألم تريني حلت بين
الرجل وبينك - يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه
صلى الله عليه وسلم - ثم إستأذن أبوبكر مرة أخرى فسمع
تضاحكهما - النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها
ـ قد أزال النبي صلى الله عليه وسلم بحسن معاملته هذا الأمر
الذي كان سبب هذا الغضب ـ فقال أبو بكر: أشركاني في سلمكما
كما أشركتماني في حربكما.
ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وما أحسن تأتي عائشة صلى الله عليه وسلم ولينها وانكسارها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ! ومعلوم أن الحياة الزوجية
لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب
الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات ؛ فإن هناك مهدئات ومسكنات
من هذه المعاملة اللطيفه، فقد رفعت المرأة صوتها على زوجها
- ولم يكن زوجها أي أحد بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
- فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاًَ للطرف عما سبب لها ذلك
الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضّاها
ويستشفع لها بما كان منه من موقف تجاهها ثم تضاحك
الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات.
وإلا فإنه من الممكن أن يطول الأمر والخلاف ؛ فإن الكلمة تجر
أختها وأحيانا الحركة تجد غيرها وتزداد الشقة والخلاف
والنزاع .
الموقف الرابع: سابقني فسابقته
ومن لطيف أيضاً حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم،
والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه
للنساء كل هذه المواقف تربيه في سيرة عائشة
والنبي صلى الله عليه وسلم لكل الجنسين،
ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
قالت: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء -
يعني أكثر من مرة - حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني،
فقال: ( يا عائشة هذه بتلك ).
موقف جميل جداً لعل الواحد منا يستكثر ما هو أقل منه !
ويرى أن ذلك خرماً لمرؤته، وجرحاً في عدالته، وإنزالاً من منزلته،
فإذا ظن ذلك فليستغفر ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة ؛ فإنه كان يتطلف بهذا.
وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
وجه آخر ؛ فإنه كان يجيّش الجيوش، ويدرّس الدروس،
ويربي الأجيال، ولم يشغله كل ذلك وغيره عن أن يكون مؤدياً
الحق لأهله، ومراعياً لزوجته حتى في تفرقه لمسابقتها
ومداعبتها وملاعبتها وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها
الناس اليوم، ولا يفطنون لها، ولا يتوددن بها إلى أزواجهم
، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهم التآلف
الذي هو من حسن التودد والتلطف، والذي يزيل هذا الإحتكاك،
ويجعل المسائل على أحسن وجه ؛ مما يجعل الحياة الزوجية
هانئة سعيدة.
الموقف الخامس: يضع فاه على موضع فمها
ومن لطفه صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته
لعائشة رضي الله عنها، وهذا حبٌّ فريد منه فهنا يعلمنا ان الحب
في ظل الشرع أمر لا حرج فيه ؛ فإنه قد قالت
عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يعطيني العظم فأتعرقه - أي تأكل عروق العظم ما بقي من اللحم
- ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي ).
تحبباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنه.
الموقف السادس: يا رب سلط عليّ حية
هنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق فيما بين الزوجات مع
أزواجهن.. الرواية عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها،
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه
فطارت القرعة لعائشة وحفصة معاً وكان إذا كان بالليل سار مع
عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب
بعيرك تنظرين وأنظر – أي نتبادل تجربين هذا البعير وأنا أجرب
– فقالت: بلى فركبت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل
عائشة و عليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا وافتقدته
عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يا رب،
سلّط عليّ عقرباً أو حية تلدغني،
رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً ! ".
يعني تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن، فهذه مواقف يسيرة
من معامله الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها،
وحسن أدب عائشة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا كله
يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته، ومن ما يتعلق
ببعض الإستنباطات الفقهية من عائشة رضي الله عنها ودقة
علمها وهذا نوع من المواجه ؛ حتى ننتقل من مرحله الى أخرى
لأن هناك مواقف أخرى سيأتي ذكرها لاحقا.
الموقف السابع: يا بنية إنك لمباركة
في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بتربان بلد بينها
وبين المدينة بريد وأميال وهو بلد لا ماء به، وذلك من السحر
انسلت قلادة من عنقي فوقعت، فحبس على
رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسها حتى طلع الفجر،
وليس مع القوم ماء فلقيت من أبي مالله به عليم من التعنيف
والتأفيف - سقط عقدها فانتظر الرسول يبحث عنه حتى طلع
الفجر ولم يتحرك القوم وليس عندهم ماء - ، فأنزل الله الرخصة
في التيمم، فتيمم القوم وصلّوا، قالت: يقول أبي حين جاء من الله
الرخصه للمسمين: والله ما علمت يا بنيه إنك المباركة ! لما جعل
الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر.
فهذا مما كان في نزول حكم التيمم ولم يكن فرض قبل ذلك،
وهذا كان ببركة وبسبب ما حدث لعائشة رضي الله عنها.
الموقف الثامن: يُقبّل وهو صائم
ومن ذلك أيضاً فيما يتعلق بالأحكام الفقهية المنقوله والملتصقه
بسيرة عائشة، عن أبي قيس مولى عمر قال:
بعثني عبد الله بن عمر إلى أم سلمة وقال:
سلها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم؟
فإن قالت لا ! فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يُقبّل وهو
صائـم ! فقالت له أم سلمة لا ! فقال لها ذلك، فقالت له:
لعله أنه لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا !
لأنها كانت رضي الله عنها كبيرة في السن، وهذا حكم أيضاً
فقهي فيما يتعلق بهذا.
الموقف التاسع: تنزعي مقلتيك
ومن ذلك أيضاً ما روته بكرة بنت عقبة: أنها دخلت على عائشة
وهي جالسة في معصفرة - أي لباس مزين أو فيه صفرة -
فسألتها عن الحناء ؟ فقالت: شجرة طيبة وماء طهور،
وسألتها عن الحفاء فقالت لها: إن كان لك زوج فاستطعت
أن تنزعي مقلتيك فتضعيها له أحسن مما هما فافعلي.
وهذا من أعظم فقه عائشة بالنسبة للنساء تقول إن كان لك زوج
فاستطعت أن تنزعي مقلتيك أي عينيك فتصنعينها أحسن مما
هما عليه فافعلي، وذلك لكي تكون أقرب وأحب الى زوجها.