كربلاء مدرسة الانتصار على الذات
إن النفس البشرية هي كل لا يتجزأ، والحقول المختلفة للحياة تتفاعل مع بعضها لتكوّن حياة واحدة مركبة من كافة العوامل.
والثورة هي نتاج كل العوامل التي تتفاعل في الحياة، والضغوط التي تؤثر على النفس، والثورة الرسالية هي التي تستلهم قيمها من قيم الله كثورة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ، وهذه الثورة تؤثر في الحياة الاجتماعية بقدر انعكاسها على النفس البشرية. فالنفس تصفو بالثورة، والثورة بدورها هي نتيجة الصفاء النفسي، وكما أن الثورة تستهدف إزالة النفاق والفساد الاجتماعي من واقع الحياة، فهي أيضاً تهدف إلى القضاء على النفاق والفساد في النفس البشرية.
الانتصار هو تجاوز الضعف البشري
إن الذين ينتصرون على أنفسهم وضعفهم، ويتغلّبون على ترددهم في الحياة، ويكتشفون ما أودع الله في كيانهم من كنوز العقل والإرادة والضمير الحي النابض، إن هؤلاء منتصرون لا محالة على قوى الشرك والضلالة والجهالة في المجتمع.
والصراع الاجتماعي النابع من إرادة حرة، وضمير إنساني، وعقلية واعية، هذا الصراع يهديه إلى الصراط المستقيم، كما أشار إلى ذلك تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )(العنكبوت/69)
وعملية الجهاد أو الصراع هي عملية مواجهة الفساد الاجتماعي، هذه المواجهة التي تقتلع من النفس البشرية جذور الفساد والنفاق والانحراف، ذلك لأن للإنسان قوة خارقة في الخداع الذاتي، فبالرغم من أنه تحمل مسؤولية رفضت السماوات والأرض والجبال تحملها، وأشفقن منها، إلا أن نفسية هذا الإنسان ظلومة كفارة، تحاول أن تحجب الحقيقة عن ذاتها بأن تخدعها وتخدع من حولها. ولذلك فإن كل إنسان ينطوي في داخله على نسبة كبيرة من النفاق مما يزيد الطين بلة أن موعظة الناصحين، وهداية المؤمنين، وتلاوة آيات القرآن بل وحتى صدمات مآسي الحياة لا تستطيع أن تنتزع من النفس البشرية جذور النفاق، فيبقى الإنسان منافقاً بالنسبة إلى ذاته وغيره، وتبقى جذور الانحراف حية في نفسه، فأنى عادت إليه الحياة الطيبة المترفة عاد منحرفاً عن طريقه.
طبيعة الإنسان كما يرسمها لنا القرآن
ويحكي لنا القرآن الكريم طبيعة الإنسان هذه من خلال الصورة التي يرسمها لنا عن أولئك الذين ركبوا في البحر، وجرت بهم ريح طيبة ففرحوا بها، ثم أحاطت بهم العواصف والأمواج من كل مكان، فتساقطت أمام أعينهم الأوهام ولم يعودوا يشركون بالله شيئاً: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )(العنكبوت/65)
فقبل قليل كانت نفوسهم وقلوبهم وكل وجودهم متوجهاً إلى الله تعالى يستمدون منه العون، ويدعونه مخلصين، ولكنهم سرعان ما ينسون أو يتناسون كل عهودهم ومواثيقهم ليعودوا مشركين!
ويبين لنا القرآن ما هو أغرب من ذلك عندما يرى الإنسان بأم عينه أهوال الموت، وفظائع القبر، ثم عذاب الله يوم القيامة، ومع ذلك فإنه لو أعيد إلى الدنيا لعاد إلى ما كان يفعله سابقاً من ذنوب. قال الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )(الانعام،27-28). وهذه هي طبيعة النفس البشرية وطغيانها، فكيف يمكننا القضاء على هذا النفاق والخداع أو الطغيان النفسي؟
لا يمكننا ذلك إلا من خلال خوض الصراع والجهاد، فبواسطة المحاولات المتكررة والمستمرة يتم تغيير الحياة وإصلاحها، ويتم للإنسان التغلب على طغيان نفسه. فالملاحظ أن الناس كلما اسقطوا صنماً حجرياً قائماً في الحياة الاجتماعية فإنهم يسقطون بموازاته صنماً من الأخلاق الفاسدة في أنفسهم، فعندما نحارب طاغوتاً، أو نظاماً فاسداً، أو مؤسسة اجتماعية منحرفة فإننا نحارب بقدرها وبموازاتها طغياناً وانحرافاً في أنفسنا، وصنماً قائماً في ذواتنا.
ولا يمكن للإنسان أن يقول في البدء أن عليه إصلاح نفسه، وإسقاط الطواغيت المتراكمة داخل ذاته كالخوف والكسل والفشل والجبن، ومن ثم يقضي على طاغوت الإلحاد والفساد في المجتمع، ذلك لأن العملية تفاعلية، ففي كل خطوة يجب علينا القضاء على طاغوت في أنفسنا في نفس الوقت الذي نقضي فيه على طاغوت في المجتمع.
إحياء ذكرى عاشوراء وسيلة لتزكية النفس
وعندما نجلس في محفل من محافل ذكر الإمام الحسين عليه السلام وثورته الخالدة التي هي خلاصة الثورات الأنبياء?، وامتداد لرسالات الله، فإننا إنما نفعل ذلك لتصفية أنفسنا، وتزكية ذواتنا. فهذه الدموع التي تجري على مصاب السبط الشهيد من شأنها أن تغسل قلب الإنسان، وتزيل الصفات السيئة من نفسه، فترى الإنسان يلتحم من خلال هذه الدموع، وبفضل هذه التزكية مع روح الحسين عليه السلام صاحب البطولات النادرة؛ أي مع تلك النفسية التي انتصرت على كل عوامل الضعف البشري.
إن هذه الدموع هي وسيلة تلاحمنا، وأسلوب تفاعلنا واتصالنا بينبوع فيض الحسين عليه السلام وفيض أهل بيت النبوة، وأصحابه. وهكذا الحال بالنسبة إلى كل نوع من أنواع تجديد ذكرى أبي عبد الله الحسين عليه السلام فإنه يجعلنا أكثر تفاعلاً مع هذه المأساة، وبالتالي أكثر استيعاباً لدروسها، ونجاحاً في القضاء على نفاقنا وخداعنا الذاتيين.
إن الإمام الحسين عليه السلام هو حجة الله علينا يوم القيامة، فماذا تعني الحجة؟ إنها تعني أن الله تعالى الذي خلقنا وخلق الإمام الحسين عليه السلام ومنحه تلك المواهب، قادر على أن يتفضل بمثل تلك المواهب علينا، ومن ضمن هذه المواهب صبره وتحمله في ذات الله رغم المصائب الكبيرة التي تحملها في يوم عاشوراء، ذلك لأنه عليه السلام كان متصلاً بقدرة الله، وقد تجلى ذلك في مصيبة ابنه علي الأكبر، وفاجعة الطفل الرضيع الذي ألهب الجوع والعطش والحر قلبه وكبده الصغيرين، وعندما يطلب الإمام الحسين عليه السلام شربة من الماء لهذا الطفل يمطره الأعداء بوابل من السهام الغادرة فيذبحونه على صدر أبيه.
كيف انتصر الإمام الحسين عليه السلام على الضعف البشري؟
ترى هل يوجد قلب بشري قادر على أن يتحمل مرارة هذه المصيبة وألمها؟ ولكن الإمام الحسين عليه السلام يمسك بالدم، ويرمي به نحو السماء قائلاً: (هوّن ما نزل بي إنه بعين الله)(29).
وهنا نتساءل: كيف انتصر الإمام الحسين عليه السلام على عوامل الضعف البشرية في ذاته؟ كيف انتصر على حبه العميق أو بالأحرى على شفقته الشديدة كأب تجاه أبنه الرضيع، ونجله الشاب الوسيم الذي رآه أمامه مقطّعاً بالسيوف إرباً إربا؟ كيف انتصر على هذه العوامل كلها وهو بشر، وكان صامداً كالطود العظيم إزاءها، بل ويتهلل وجهه الكريم انشراحاً كلما ازدادت مصائبه؟
لا شك إن ذلك كان لارتباطه العميق برب العالمين، لأنه يرى أن هذه المصائب هي الجسر الذي يربطه بالخالق تعالى، وتقربه إليه زلفى.
فلماذا لا تنتصر أنت أيها الإنسان على ضعفك؟ إن الحسين عليه السلام هو حجة الله علينا، فكلما نجلس ونذكر ثورته عليه السلام ونعظم فيه هذه البطولة كلما ندين ضعف أنفسنا، ونحثها على سلوك الطريق الذي سلكه الإمام الحسين عليه السلام للانتصار على ضعف أنفسنا. وهذا هو الدرس الأعظم الذي يستطيع كل إنسان أن يستوعبه من سيرته عليه السلام .
كربلاء مدرسة متكاملة
وهكذا فإن كربلاء هي مدرسة متكاملة للناس بمختلف فئاتهم، فالشباب بإمكانهم أن يدرسوا عند عليّ الأكبر والقاسم وسائر شباب أهل البيت( وللشيوخ أيضاً أساتذتهم في كربلاء كحبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة وغيرهما من الذين ضحوا في سبيل الله، كما أن النساء بإمكانهن الاستفادة من هذه المدرسة من خلال التتلمذ عند زينب الكبرى عليها السلام ، وعند النساء الفاضلات الأخريات اللاتي اشتركن في ملحمة عاشوراء.
إنها لمدرسة خاصة، مدرسة كربلاء التي بإمكان الجميع أن يتعلموا منها كل صفة وكل مكرمة؛ فالوفاء عند أبي الفضل العباس، والشجاعة عند الإمام الحسين، والحنان واللطف عند زينب الكبرى التي كانت رغم شجاعتها وبطولتها تفيض على كربلاء شآبيب الحنان والحب والعطف فإذا بها النموذج الأسمى للإنسانية الشجاعة، فزينب عليها السلام تعلم الأمهات كيف يدفعن أبناءهن إلى ساحة المعركة، والمرأة الشابة كيف تحرّض زوجها على الجهاد.
وهكذا فإننا نتعلم من مدرسة كربلاء الصفات الإنسانية الرفيعة المستوى، ونتعلم منها الدروس العظيمة.
وفي نفس الوقت فإننا كلما رأينا انحرافاً وضلالاً وفساداً عند جيش العدو؛ أي عند شيعة آل أبي سفيان عليهم اللعنة تتفجر بغضاً وحنقاً عليهم، فإذا ما رأينا ما انتهى إليه هذا الجيش، وكيف أن الإنسان إذا أعرض عن هدى الله، وانحدر من قمة الإنسانية سوف لا يلوي على شيء، وسوف يهبط إلى الحضيض والدرك الأسفل، فإن هذا يعطينا درساً بأن الإنسان إن لم يتمسك بهذه القمة فسوف تقلعه الرياح؛ رياح الشهوات؛ ورياح الضغوط الاجتماعية، كما حدث لشمر بن ذي الجوشن.
كيف ينحدر الإنسان إلى الحضيض؟
هذا الرجل يقول: هممت أن أحز رأس الإمام الحسين عليه السلام ، فانحدرت إلى المكان الذي صرع فيه، فوقع نظري على عينيه فهبته، ووليت هارباً وقد سقط السيف من يدي. لا شك إن هذا الرجل شقي ولكنه عندما يرى عيني الإمام الحسين عليه السلام اللتين تشبهان عيني رسول الله (ص) يتراجع عن فعلته. فالحسين عليه السلام كما جاء في بعض الأحاديث لم يكن ينام الليل، وكان دوماً مشغولاً بالعبادة والدموع تجري من عينيه الكريمتين، فكيف تسنى لشمر بن ذي جوشن بعد ذلك أن يجلس على صدر الإمام الحسين عليه السلام ، ويحز رأسه الكريم؟
إن هذا هو الحضيض الذي ينحدر إليه الإنسان عندما يصد عن هدى الله، وينفلت من التمسك والاعتصام بحبله تعالى.
إن بداية الانحراف بسيطة ولكن نهايته ستكون كنهاية عمر بن سعد الذي كان -حسب ما كان يدعي- ابن فاتح العراق، وابن عم الإمام الحسين عليه السلام ، ويعرف ماذا يعني قتل هذا الإمام، ولكنه مع ذلك انحدر في مسيرة الهابط حتى اختار قتل للإمام الحسين عليه السلام .
ترى كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا المستوى؟ إنه مستوى اسفل سافلين الذي يقول عنه تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ )(التين/4-5). فالإنسان إما أن يكون في أحسن تقويم، متمسكاً بهدى الله وحبله، متحدياً رياح الشهوات، وعواصف الضغوط، وإما أن تتراخى يده عن هذا الحب، ولا يبالي، فيسقط وتهوي به الريح في مكان سحيق.
وهذا الدرس يوضح لنا أهمية التمسك الشديد بهدى الله. وهكذا كانت كربلاء، وكانت عاشوراء مدرسة في بعدين: بعد الخير، وبعد الشر.
الحرّ بطولة التحدي
ولو توقفنا ساعات أمام بطولة الحر بن يزيد الرياحي لما استطعنا أن نستوعبها، إنه درس عظيم أن يتحدى الإنسان واقعه، وكل ما حوله من ضغوط ، ويختار الموت بشجاعة، وينتخب الجنة بوعي وإيمان، كما فعل الحر رضوان الله عليه، فكم كان عظيماً ما فعله بحيث تتبخر أمامه جميع النظريات المادية، والحتميات الفاسدة، فأي حتمية كانت وراء توبة الحر، وبتأثير أي شيء غير مساره؟ أمن أجل الاقتصاد، أم من أجل السياسة؟ لا شيء. فالإرادة البشرية هي التي تتحدى كل الماديات، والحتميات، وهي التي تجلت عند الحر في كربلاء.
وإذا كانت هناك بطولة حقيقية فهي هذه البطولة. فالبطل الحق هو الذي يصرع نفسه في ساعات الشدة، وأشجع الناس من غلب هواه، ولا شك إننا سنستطيع أن نصلح أنفسنا ومجتمعنا إذا استلهمنا درس التوبة من الحر، فإن لم تكن لدينا إرادة تعصمنا من الوقوع في المعاصي، فلتكن على الأقل لدينا الشجاعة التي تخرجنا مما وقعنا فيه، وهذا هو الدرس الذي نتعلمه من الحر بن يزيد الرياحي، الذي ما ان سمع استغاثة الإمام الحسين عليه السلام ، حتى قال لولده: إن الحسين يستغيث فلا يغيثه أحد، فهل لك أن نقاتل بين يديه ونفديه بأرواحنا، ولا صبر لنا على النار ولا على غضب الجبار، ولا يكون خصمنا محمد المختار؟
قال ولده: والله أنا مطيعك.
ثم حملا كأنهما يقاتلان، حتى جاءا بين يدي الإمام، وقبلا الأرض وقال الحر: يا مولاي، أنا الذي منعتك من الرجوع، والله ما علمت أن القوم الملاعين يفعلون بك ما فعلوا. وقد جئناك تائبان. فحمل ولده على القوم، ولم يزل يقاتل حتى قتل منهم أربعة وعشرين رجلاً، ثم قتل(رض)، فاستبشر أبوه فرحاً، وقال: الحمد لله الذي استشهد ولدي بين يدي ابن رسول الله?. ثم برز الحر وهو يقول
أكون أميراً غاراً وابن غـادر إذا أنا قاتلت الحسين ابن فاطمة
أسفي على خذلانه وانفراده ببيعة هذا ناكــث العهد لازمـه
.. ثم حمل عليهم وقال: يا أهل الكوفة، هذا الحسين لقد دعوتموه وزعمتم أنكم تنصرونه وتقتلون أنفسكم عنه، فوثبتم عليه وأحطتم به من كل جانب.. بئس ما صنعتم، لا سقاكم الله يوم العطش الأكبر إن لا ترجعون عما أنتم عليه.
ثم حمل عليهم فقتل منهم خمسين رجلاً ثم قتل (رض)، واجتزوا رأسه ورموه نحو الإمام. فوضعه في حجره وهو يبكي ويمسح الدم عن وجهه ويقول: "والله ما أخطأت أمك إذ سمتك حراً، فأنت والله حر في الدنيا وسعيد في الآخر(30).
فكم هي سعادة الإنسان وفلاحه، وكم يكون فرحه وشعوره بالفخر وهو يعلم أنه قد أنهى فتنة الحياة، وانتصر عليها، ونجح في الإمتحان، ليرد على رب رحيم غفور كريم.
فعلينا -إذن- أن نستلهم من بطولات الإمام الحسين عليه السلام ومن وفاء أبي الفضل، وإقدام علي الأكبر، وشجاعة زينب، وإيمان الصديقين من أنصار الإمام الحسين عليه السلام ، دروساً تكون ذخراً لنا في الدنيا لمحاربة الطغاة ومقاومة الفساد، وزاداً في الآخرة ينفعنا عندما لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كربلاء ينبوع الثورات
لقد شحنت كربلاء إرادة الأمة بالعزيمة الراسخة بما بلورت من الأحاسيس الخيرة في الإنسان، ذلك لأن لهذا الإنسان مخزوناً كبيراً من العقل والإرادة والعاطفة، وهو غالباً ما يرحل عن هذه الدنيا قبل أن يستفيد من هذا المخزون الضخم.
إن من أهداف رسالات السماء، ومصلحي البشر إثارة دفائن العقول، وشحذ وتحريك الإرادة والعاطفة، واستخراجهما من باطن الإنسان إلى واقعه. وهذا ما فعلته ملحمة كربلاء بالضبط، فقد كانت هي الطليعة والقدوة لجهد الإنسان في تفجير مخزونه الإرادي والعقلي والعاطفي، ففي زيارة الإمام الحسين عليه السلام نقرأ عبارات من مثل: (السلام عليك يا قتيل العبرات، وأسير الكربات)(31). فملحمة كربلاء ما زالت تستدر دموع الناس عامة وخاصة الموالين، ومجالس العزاء كانت وما تزال تقام على مدار أيام السنة لا سيما في شهر محرم الحرام، كما أن ذكر الإمام الحسين عليه السلام أصبح على كل لسان وفي كل مكان ومناسبة.
سر خلود الإمام الحسين عليه السلام
وهنا يحق أن نتساءل: لماذا كان للإمام الحسين عليه السلام مثل هذا الخلود والحضور؟ لقد قام عليه السلام بثورة، وتحول هو نفسه مع مرور الزمن إلى ثورة بل إلى مفجر للثورات في ضمير الإنسان، ولم يعد عليه السلام ذلك القتيل على رمضاء كربلاء، ولم تعد عاشوراء تلك الفترة المحدودة من الزمن؛ فلقد أصبح الإمام عليه السلام رمزاً للثورة، وحينما نذكره تجري دموعنا، وتلتهب مشاعرنا وعواطفنا من حيث نشعر أو لا نشعر.
وهكذا فقد تحول الإمام الحسين عليه السلام من شخص إلى رمز، ومن رمز إلى مسيرة، ومن مسيرة إلى حقيقة ثورية، وعندما نقول إنه عليه السلام كان ثورة، فهذا يعني إن كل قلب سيتفجر بالثورة عندما يرتبط بينبوع الإمام عليه السلام ، فحينما يذكر عليه السلام تقفز إلى الأذهان فكرة الشهادة والبطولة والفداء وكل معاني العمل من أجل الله تعالى والمستضعفين والمحرومين في الأرض، وكلما تجددت ذكرى عاشوراء تفتحت أبصارنا، وتفجرت طاقاتنا، حيث أن ملايين البشر على امتداد الأرض يتحولون في يوم عاشوراء تحولاً ثورياً يغذيهم بمعاني الثورة خلال السنة كلها.
منذ أربعة عشر قرناً مضت وإلى الآن نجد الناس يستمدون من ثورة الإمام الحسين عليه السلام معاني الثورة والاندفاع والتضحية، مما يدل على أن هذه الملحمة قد تحولت إلى مسيرة، والإمام عليه السلام إلى ثورة، وهذا حدث هام في حياة الناس، ولكن السؤال المهم هو: أي ثورة أصبح الإمام الحسين عليه السلام وكيف أصبح ثورة، وفي أي مجال؟
في البدء ثورة على الذات
لقد كان عليه السلام في البدء ثورة على الذات، لأن أي إنسان لا يستطيع الانتصار للرسالة دون أن يحقق انتصاراً على ذاته، ونحن لا نريد أن ننتصر لأنفسنا لأن هذه فكرة خاطئة، بل نريد أن ننصر دين الله تعالى وهذا هو الهدف الأسمى، ومتى ما نصرنا دين الله، فإننا سنكون سبباً لسعادة الآخرين وفلاحهم.
وهناك حقيقة لابد للإنسان الثوري أن يزرعها في نفسه، وهي أنه لا ينبغي له أن يستهدف الوصول إلى كراسي الحكم وبلوغ مراكز القدرة والهيمنة.. بل عليه أن يعمل للآخرين، لأن نتيجة العمل من أجل الناس هي العمل لله سبحانه، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )(محمد/7)
وهكذا فإن الدرس الأول الذي يمكن أن نستوحيه من كربلاء الحسين عليه السلام هو أن النصر لله وحده، لا النصر المؤدي إلى إحراز المناصب.
وإذا كان ثمن استقامة الدين الإسلامي هو دم الإمام الحسين عليه السلام فإنه سوف لن يبالي، بل سيدفع الثمن راضياً مطمئن النفس، رغم إنه عليه السلام كان بإمكانه أن يختار طريقاً آخراً للخلاص من الموت، ولكنه صمم على مواصلة مسيرته الرسالية من أجل نصرة الله تعالى والحق.
التضحية يجب أن تكون شاملة
ونحن نستلهم من ذكرى عاشوراء التي تتجدد كل عام أن الإنسان عندما يريد أن يهب نفسه لله عز وجل فلا يجب أن يطلب لنفسه شيئاً مما وهب، لأن الأفضل أن يهب الكل، لأن عليه أن يسقط من فكره الذاتية. فإسقاط الاعتبارات الذاتية هو الهدف الذي من أجله ثار الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، فلقد أعطى عليه السلام جميع من حوله الإذن بالمبارزة، وقد كان علي الأكبر عليه السلام أول من بارز وهو أحب أبنائه إلى قلبه، فبقدر التصاق الأئمة والمصلحين بمبادئهم ورسالاتهم يلتصقون بالمعاني الإنسانية، فهم يبلغون القمة في شفقتهم على أبنائهم، لا سيما إذا كان الابن يمثل في ذاته رسالتهم مثل علي الأكبر عليه السلام الذي كان أشبه الناس خلقاً وخُلقاً برسول الله (ص) ، فهو رمز لرسول الله الذي هو بدوره رمز للأخلاق الفاضلة، والقيم السامية..
ومع ذلك فقد أذن لأبنه بالمبارزة، وقدمه في طليعة أهل بيته. وهذا يعني أن الإمام الحسين عليه السلام وهب كل ما يملك في سبيل ثورته، فقد ضحى بابنه الطفل البالغ من العمر ستة أشهر، هذا الطفل الذي كان يمثل بالنسبة للحسين عليه السلام أملاً كبيراً، لأن الطفل امتداد للإنسان، وحب الإنسان لطفله إنما هو لإبراز شخصيته في المستقبل، وتنشئته نشأة صالحة، وهذا هو الحب الذي ينبعث ويشتد كلما شعر الإنسان بالخطر.
والإمام الحسين عليه السلام لم يشعر بالخطر فحسب وإنما كان يعلم علم اليقين إنه سيموت، ومع ذلك فقد أتى بابنه معه، وهو يعلم طبيعة نوايا القوم، وماذا سيفعلون به، ولكنه رغم ذلك ذهب ليطلب له شربة من الماء، فإذا به يذبح وهو في حضن والده.