الأنوار في القرآن 1
أطلق الله النور في كتابه على عدة أشياء، أطلقه سبحانه على نفسه، وأطلقه على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأطلقه على القرآن، وأطلقه على الهداية، وأطلقه على نور الهداية والإيمان.
فالنور في القرآن على خمسة أنحاء: نور الرحمن، ونور القرآن، ونور النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، ونور الإيمان، ونور الأكوان، ولو أن أحد الباحثين كتب رسالة يتتبع فيها النور في كتاب الله وسنة رسوله، وأثر ذلك عند المسلمين لخرج كتابا حافلا لم يؤلف مثله في الإسلام.
ونحن في هذا العصر الذي اشتدت فيه الظلمات : ظلمات الكفر والإلحاد، ظلمات الظلم والاغتصاب، ظلمات العدوان وانتهاك المقدسات لفي أحوج الحاجة إلى معرفة النور الذي تكلم عنه الله ورسوله حتى نعلم الشيء ونقيضه، وحتى نعلم ما هذا النور وكيف نتبعه ما البرنامج الذي نسير عليه ؟ نفر فيه من الظلمات إلى النور حتى يرضى ربنا عنا، وحتى نتمتع بهذه الخاصية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
إن دين الإسلام دين النور، وقد أطلق الله النور على نفسه في سورة حملت اسم «سورة النور» قال الله تعالى فيها : {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
وقد اهتدى مكتشف المصباح الكهربائي إلى اكتشافه بعد تجارب عديدة بسبب هذا التشبيه البليغ، حيث لفت التشبيه القرآني لأهمية وجود الزجاج حول المصدر المشع لنشر الضوء.
وفي هذا النور الرحماني يقول الإمام ابن عطاء الله السكندري في كتابه الشهير «الحكم العطائية» : «الكون كله ظلمة و إنما أناره ظهور الحق فيه» وهو يقصد أن الكون من حيث كونيته وظهور حسه كله ظلمة؛ لأنه حجاب لمن وقف مع ظاهره عن شهودربه، ولأنه سحاب يغطى شمس المعاني لمن وقف مع ظاهر حس الأواني.
وإليه أشار الششتري بقوله: لا تنظر إلى الأواني وخض بحر المعاني، لعلك تراني.فصار الكون بهذا الاعتبار كله ظلمة؛وإنما أناره تجلي الحق به وظهوره فيه، فمن نظر إلى ظاهر حسه رآه جسماً ظلمانياً ومن نفذ إلى باطنه رآه نوراً ملكوتياًَ.
فقول الشيخ الكون كله ظلمة إنما هو في حق أهل الحجاب، لانطباع ظاهر الأكوان في مرآةقلوبهم وأما أهل العرفان, فقد نفذت بصيرتهم إلى شهود الحق، فرأوا الكون نوراً فائضاً في بحر الجبروت فسار الكون عندهم كله نورا.
وهو ما يشير لقول الشاعر:
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار.
أما نورانية كتاب الله الكريم القرآن المجيد فقد أثبتها ربنا له في أكثر من آية، قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف :157]. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن :8]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء :174].
فالقرآن الكريم نور من عدة اعتبارات فباعتبار مصدره فإن مصدره عالم الأنوار والوحي والقدس، ولذلك أمر الله في كتابه أن الإنسان إذا ما أراد أن يتصل بهذا النور أن يمسح نفسه بمسحة النور، فعليه أن يتوضأ والوضوء من الوضاءة والإنارة، وهي العبادة التي يتطهر فيها المسلم من الحدث الأصغر وذلك ليكون حاله مناسبا للنور الذي يريد أن يتلوه.
والقرآن نور من حيث لغته العربية وتهذيبه للغة العرب التي كانت مليئة بالغرائب ووحشي الكلام، وأذكر شعر ابن المطهر الحلي حيث يقارن بين القديم والجديد في لغة العرب، ويظهر من ذلك مدى تهذيب القرآن للغة العرب :
إنما الحيزبون، والدردبيس والطخا والنخا والعلطبيس
لغة تنفر المسامع منها حيث تتلى وتشمئز النفوس
أين قولك هذا جديث قديم من مقالك عقنقل قدموس
وألفاظ القرآن نحو 1810 لفظة تمثل جذور الكلمات القرآنية، في حين أن معجم لسان العرب لابن منظور نحو ثمانين ألف مادة أعني جذرًا، أي أن جذور القرآن تمثل نحو اثنين في المائة (تماماً 2.25%) من جذور لسان العرب، والقرآن أصغر نص مقدس، وعدد كلماته نحو 66 ألف كلمة، منها 1620 كلمة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، ويقول بعضهم إن الأديب الروسي تولستوي لم يكرر 4 كلمات في كتابه الحرب والسلام، فعُد ذلك من بلاغته وتمكنه اللغوي، فإذا صح ذلك، فإن هذا التفرد في القرآن الكريم بهذا العدد الضخم من الألفاظ غير المكررة يكون معجزة بمعنى الكلمة. تضام إلى وجوه إعجازه التي تخرجه عن نظام كلام البشر.
[size=16]والقرآن نور من حيث نقله، فقد نقل بالأسانيد المتصلة المتكاثرة التي بلغت حد التواتر الإسنادي والجملي، ولقد أورد ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) أكثر من ألف سند من عصره (القرن التاسع الهجري) إلى القراء العشرة وهم قد نقلوا القرآن ممثلين عن مدن بأكملها كلها يقرأ كما كانوا يقرأون، وهذا ما يسمى بالتواتر الجملي؛ فلأن الناس جميعًا يقرأون القرآن في مدينة معينة بهذه الطريقة وبهذا الأداء فكان هؤلاء القراء مجرد مندوبين عنهم وممثلين لقراءتهم وحافظين لطريقتهم في التلاوة وارتضاهم أهل كل مدينة لما رأوا فيهم مزيد الاهتمام وتمام العلم، فشهدوا لهم جميعا بذلك.
[/size]