قال الله تعالي:
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول
وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها
فبئس المصير.-- يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر
والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون .-- إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا
إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } المجادلة : (8 -10)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا
فإن الله غفور رحيم . أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون }
المجادلة (12-13)
روى ابن مسعود، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه)
"أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود".
ما هي النجوى ؟
النجوى في اللغة:التكتم في الكلام سواء كان بين اثنين أو جماعة،
والنجوى التي من الشيطان : ما كان فيها تآمر على حق، أو إضرار بمسلم، أو إدخال للشك في نفسه،
قال تعالى:{ إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله
وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
(المجادلة:10)
في تفسير ابن كثير لآيات سورة المجادلة (8 - 10):
كان بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم
جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم،
فنهاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل اللّه تعالى: {ألم تر إلى الذين نهواعن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} روي هذا عن مجاهد ومقاتل بن حيان
وقوله تعالى: {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول}
أي يتحدثون فيما بينهم بالإثم وهو ما يختص بهم، {العدوان} وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته،
يصرون عليها ويتواصون بها، وقوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به اللّه}.
عن عائشة قالت:
دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: وعليكم السام،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ياعائشة إن اللّه لا يحب الفحش ولا التفحش) قلت: ألا تسمعهم يقولون:
السام عليك؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(أو سمعت ما أقول وعليكم؟) فأنزل اللّه تعالى:
{وأذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به اللّه} "أخرجه ابن أبي حاتم".
وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم:
عليكم السام والذام واللعنة، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا)
وروى ابن جرير، عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي،
فسلم عليهم فردوا عليه، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(هل تدرون ما قال؟) قالوا: سلم يا رسول اللّه،
قال:(بل قال: سام عليكم) أي تسامون دينكم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ردوه) فردوه عليه،
فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(أقلت سام عليكم؟) قال: نعم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
(إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك) "أصله في الصحيحين، وهذا الحديث
روي عن عائشة في الصحيح بنحوه"، أي عليك ما قلت.وقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول} أي يفعلون هذا ويقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا اللّه بما نقول له في الباطن لأن اللّه يعلم ما نسره،
فلو كان هذا نبياً حقاً لأوشك اللّه أن يعاجلنا بالعقوبة في الدنيا، فقال اللّه تعالى: {حسبهم جهنم} أي جهنم كفايتهم
في الدار الآخرة {يصلونها فبئس المصير}، عن عبد اللّه بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
سام عليك. ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا اللّه بما نقول؟ فنزلت هذه الآية:
{وأذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به اللّه ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول * حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} "
أخرجه الإمام أحمد".
وقال ابن عباس: كان المنافقون يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال اللّه تعالى:
{حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}، ثم قال تعالى مؤدباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين:
{يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة
أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، {وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا اللّه الذي إليه تحشرون} أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها،
روى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل، فقال:
كيف سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:
(إن اللّه يدني المؤمن فيضع عليه كتفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟
حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أن قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته،
وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين) "أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة". ثم قال تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً، {من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه {ليحزن الذين آمنوا} أي ليسوءهم وليس ذلك {بضارهم شيئاً إلا بإذن اللّه}
ومن أحسّ من ذلك شيئاً فليستعذ باللّه وليتوكل على اللّه، فإنه لا يضره
شيء بإذن اللّه، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على
مؤمن، كما روى ابن مسعود، قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه) "أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود".
وقد جاء ايضاً في هذه الآيات: المجادلة (12-13) :
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم أي يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره
وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام، ولهذا قال تعالى: {ذلك خير لكم وأطهر}، ثم قال تعالى: {فإن لم تجدوا}أي إلا من عجز عن ذلك لفقره، {فإن اللّه غفور رحيم} فما أمر بها إلا من قدر عليها، ثم قال تعالى: {ءَأَشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، {فإذ لم تفعلوا وتاب عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا اللّه ورسوله واللّه خبير بما تعملون}
فنسخ وجوب ذلك عنهم، وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي
بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال مجاهد: نهوا عن مناجاة النبي صلى اللّه
عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدم ديناراً صدقة
تصدق به، ثم ناجى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن عشر خصال، ثم أنزلت
الرخصة، وقال علي رضي اللّه عنه: آية في كتاب اللّه عزّ وجلَّ لم يعمل
بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم،
فكنت إذا ناجيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت، ولم
يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} هذه رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد الآية. وقال ابن عباس {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}،
وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى
شقوا عليه، فأراد اللّه أن يخفف عن نبّيه عليه السلام، فلما قال ذلك جبن
كثير من المسلمين، وكفوا عن المسألة، فأنزل اللّه بعد هذا: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فوسع اللّه عليهم ولم يضيق،
وقال قتادة ومقاتل: سأل الناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم اللّه بهذه الآية،
فكان الرجل منهم إِذا كانت له الحاجة إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها،
حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل اللّه الرخصة بعد ذلك: {فإن لم تجدوا فإن اللّه غفور رحيم}