رؤيتان متناقضتان للأسباب الاقتصادية وراء الثورة المصرية
وكيفية تجاوز نظام مبارك الاقتصادى، إحداهما قدمتها مجلة الإيكونوميست التى
اعتبرت أن تدخل النظام السياسى للرئيس المخلوع فى الاقتصاد كان سببا فى
قيام الثورة، والأخرى قدمتها دراسة حديثة لأستاذة الاقتصاد السياسى
بالجامعة الأمريكية، نادية رمسيس، تعتبر أن انسحاب الدولة من أداء أى دور
فى الاقتصاد أدى إلى تفاقم المشكلات التى دفعت الشعب للثورة.
القراءة الأولى جاءت فى سياق ملف بعنوان «صعود رأسمالية الدولة»، نشر فى
عدد الأسبوع الماضى من مجلة الإيكونوميست البريطانية، والذى تصدر غلافه
صورة الزعيم الشيوعى فلاديمير لينين، وانتقدت فيه المجلة تنامى دور الشركات
التابعة للدولة فى الاقتصادات الصاعدة، كالصين والبرازيل، محذرة من أن
للقطاع العام سلبياته، مهما أظهر من قوة اقتصادية فى الوقت الحالى، ومن
أبرز تلك السلبيات نشوء ما يعرف برأسمالية «عصابات النهب» كنتاج لتدخل رموز
النظام السياسى فى الاقتصاد، مع غياب العدالة والرضاء الشعبى، «وهو ما
فعله نموذج مبارك فى مصر» على حد تعبير الإيكونوميست، التى رأت فى السياسات
الاقتصادية للنظام المصرى السابق أحد الأمثلة المعبرة عن ذلك.
وفى المقابل اعتبرت نادية رمسيس، فى دراسة عن الاقتصاد والثورات
العربية، تصدرت تقرير «اتجاهات اقتصادية استراتيجية» الصادر عن مركز
الأهرام للدراسات السياسية، أن «سياسات الإصلاح الاقتصادى التى فرضت على
مصر والدول العربية غير البترولية منذ الثمانينيات، واشترطت انسحاب الدولة
من أى دور ناشط فى الاقتصاد، كانت من أهم مسببات الثورات التى نشبت فى
العالم العربى».
واعتبرت رمسيس، أن النموذج الاقتصادى المصرى خلال الخمسينيات والستينيات
كان بصدد تأسيس «دولة رفاه»، وخلق فرص عمل من خلال سياسة إحلال الواردات
الأجنبية بمنتجات محلية الصنع، بالرغم من ارتباط سياسات تلك الحقبة بالقمع
السياسى، الذى ارتبط آنذاك بوجود نوع من العقد الاجتماعى بين الدولة
والمجتمع على «مبادلة الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية».
وبالرغم من اعتراف رمسيس بأن ثورات الربيع العربى تتطلع لنموذج
«ليبرالى» فى السياسة، إلا أنها تحذر من أن النظام المصرى الجديد لن يحظى
بالرضاء الشعبى إذا امتدت ليبراليته إلى الاقتصاد أيضا، بمعنى استمرار
سياسات انسحاب الدولة من الاقتصاد وعدم التزامها بتوفير فرص العمل حيث إن
«انتفاء دور الدولة فى دفع التنمية والنمو الاقتصادى كان المشكلة الأساسية
لمعظم الدول النامية»، و«إذا ما لجأت الدول النامية إلى تبنى سياسات
الليبرالية الجديدة وانتظرت من الطبقة الرأسمالية ــ غير الموجودة أصلا ــ
أن تقود عملية التنمية فمن المحقق أن تقود مثل تلك الاستراتيجيات إلى الفشل
الذريع».
ربما يأتى الرد على طرح نادية رمسيس فى ملف الإيكونوميست المطول عن عيوب
رأسمالية الدولة، والتى ذكر منها أن شركات القطاع العام تستخدم رءوس
الأموال بكفاءة أقل، والكثير منها تحب أن تنفق الأموال «على بناء الأبراج
الفاخرة بينما يخوض رواد الأعمال صراعا لزيادة رءوس أموال شركاتهم»، ومن
تلك العيوب أيضا أنها تكون أقل ميلا للمغامرة بينما تظهر الإبداعات فى
الشركات الخاصة الجديدة التى تبحث لمكان لها فى السوق من خلال المغامرة.
ولا تنكر الإيكونوميست أن الدول الصناعية الكبرى بدأت مشوارها الاقتصادى
بتدخل قوى للدولة، كما فى الولايات المتحدة بعد حرب الاستقلال وألمانيا فى
سبعينيات القرن التاسع عشر وكوريا الجنوبية فى خمسينيات القرن العشرين،
«ولكن هذه الدول أدركت مع مرور الوقت أن هذا النظام الاقتصادى محدود
القدرة». إلا أن رمسيس تفرق بين أنماط مختلفة من تدخل الدولة فى الاقتصاد،
فـ«ليست كل أنماط تدخل الدولة تؤدى إلى تصنيع وتنمية سريعة ومستدامة»، كما
تقول فى التقرير، معتبرة أن هناك ثلاثة أنماط من الدول المتدخلة فى
الاقتصاد، وهى «الدولة المفترسة»، التى تنشأ فيها نخبة سياسية تسعى إلى
تحقيق مصالحها على حساب مصلحة الدولة ككل، و«الدولة الوسيطة» التى تتميز
«ببعض القدرة الإدارية، لكن هياكل الدولة فيها تكون مفككة وقابلة للاختراق
من جماعات المصالح الخاصة»، و«الدولة التنموية» والتى ترى أنها النموذج
الاقتصادى الأنسب لدول الربيع العربى.
وتتصف الدولة التنموية بوجود «بيروقراطية عالية الكفاءة ولها القدرة على
تنفيذ الوظائف التى تسرع بعملية التنمية الاقتصادية»، كما أن لها استقلالا
نسبيا عن كل جماعات المصالح، أى أنها لا تشهد ممارسات احتكارية لحساب رموز
فى نظام الحكم، أو تتمتع فيها قيادات من القطاع الخاص بأشكال من الدعم
بسبب مساندتها للنظام السياسى، وهو الاستقلال الذى يمكن الدولة من أن «تحدد
أولويات الاستثمار، لكنها تترك التنفيذ للقطاع الخاص»، ويمنحها «درجة
عالية من الحرية فى تحديد أهداف النمو وسحب الدعم من الصناعات غير الكفؤة،
وتحديد معدلات الاستهلاك، ومن ثم تحديد مستويات الادخار والاستثمار».
وفى نهاية دراستها، تحذر رمسيس أن الاستمرار فى سياسات انسحاب الدولة من
مسئوليتها الاجتماعية، لن يكون ملائما لتحولات المجتمع المصرى بعد الثورة،
بالرغم من أن ذلك قد يتعارض مع الرؤية النيوليبرالية المتطرفة التى تزعم
أنه «على الدول أن تمتنع عن السياسات الهادفة إلى تقليل فوارق الدخل أو
محاولات محاربة الفقر» باعتبار أن تلك السياسات تعوق النمو الاقتصادى.