البشرى الثانية والعشرون بشرى ترك الفضول
وهنا
بشرى نحب أن تشيع بين الناس فكلُّ واحد منا يحبُّ أن يحسن إسلامه ويرقى
حاله ويزيد قرباً من سيده ومولاه فتأتى له بشرى الحبيب الطبيب تقول له{مِنْ
حُسْنِ إسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ}[4]وحتى يحسن إسلام
المرء فلابد للسان ألا يتحرك إلا على الهدى المستقيم فلا يدخل فيما لا
يعنيه فصاحب فضول ليس له نصيب فى الوصول إلا إذا اجتث من نفسه ومن قلبه كل
آلات الفضول ولا يبقى له فضول إلا فى أحوال الصالحين وفى رؤية سيد الأولين
والآخرين وفى المعانى العلية المبثوثة فى كتاب ربِّ العالمين لكن الفضول
فيما فى أيدى الخلق أو ما على أجساد الخلق أو فيما يسكنه الخلق فلا شئ
ينفعك من ذلك خبرونى بالله عليكم ما نفع أن تعرف ما دار بين أخيك وزوجه؟
إذا لم يطلعك هو بنفسه أو ما قال فلان لآخر؟ سيشغل إبليس قلبك بهواك فتضل
وتزل وتنشغل جوارحك الظاهرة والباطنة بأسرار لا تنفع بل وستصبح مثل بالونة
مليئة بعورات الناس وأخبارهم وتريد أن تتقيأها فى كل مكان تذهب إليه فتصير
عند الناس قتاتا وممقوتاً ويغلق الله دونك أبواب القبول والوصول وكلُّ خيرٍ
مأمول ولا يلبث الخلق أن يغلقوا أبوابهم بوجهك ولذلك روى سيدنا أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ{تُوفِّيَ رَجُلٌ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ
ورَسُولُ اللَّهِ يَسْمَعُ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ:أَوَ لاَ تَدْرِي؟ فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ
أَوْ بَخِلَ بِمَا لاَ يَنْقُصُهُ}[5] لأنه قد قال لهم محذراً ومنبهاً
مراراً وتكراراً{إنَّ اللّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثاً: قِيلَ وَقَالَ
وَإضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ}[6]وقيل فى مدح ترك الفضول :
قطعتُ مطامعي واعتضتُ عنها عزيزاً بالقَناعَةِ والخُمولِ
ورمتُ الزهدَ في الدنيا لأنّي رأيتُ الفضل في ترك الفضول
وقال أحد الحكماء فى ترك الفضول أبيات ظريفة لأبنائه نذكرها :
هذا وربِّ السماء أعـجـب مـن حمار وحشٍ في البر منـتـعـل
أخاطبه يا عاقل كـي أسـائلـه مالك وما للخلق من شغل
فقال يخشى فـوات حـاجـتـه أو ليس هذا من أفضل العمل
فقلت لم يفت للمرء شأن الرب قدره بل قد يفوت بذنب الجسِّ والحيل
فاترك شئون الخلق للرب خالقها إن الأذى كله من تلكم الـسبل
فصد عني تغـافـلاً ومـضـى يعجب من عقلـه ومن خـلـلـي
وصاح مـن خـلـفـه رويدك إنَ الفضول سرُّ النصر من قـبـل
قلت إرجع إلـى قول الرسول تفز إن الفضول حبلٌ بالنار متصل
أجب إذا ما سئلت مـقـتـصـداً في القول واسكت إن أنت لم تسل
أنت بترك الفـضـول أجـدر لـو سلمت من خـفةً ومـن خـطـل
أما
بشرى ترك الفضول التى يفهمها الصالحون فلا تقتصر على ما مضى ولكن اسمع
للعارفين إذ دأبوا على الحثِّ على ترك الفضول والبعد عن أخلاق الفضوليين
الذميمة فيقول الشيخ ابْنَ الأَعْرَابِيِّ{الْمَعْرِفَةُ كُلُّهَا
الاعْتِرَافُ بِالْجَهْلِ وَتَرْكُ الْفُضُولِ } ولذلك فإن من أعلى وأجمل
ما قال العارفون فى ترك الفضول ما قاله أحد الحكماء فى بيان معنى ترك
الفضول عند الصالحين إذ يوضح أن كل ما لا يسوق المرء لتهذيب النفس للوصول
إلى الله هو من الفضول الممقوت والذى يجب تجنبه واستمتع بمعانى كلامه
الراقى إذ يقول:
هذب النفس إن رمت الوصول غير هذا عندنا عين الفضول
حصل العلم بعزم صادق لا تكن في العلم كسلانا ملول
علم النفس توحيد العلي من بيان الآي عن فرد قئوول
حصل الأحكام بالقدر الذي يقتضيه الوقت لا قال يقول
حسن النيات وانهج نهج ما صح بالإسناد تحظى بالقبول
صاحبن أهل التقى والزمنهم واتبع نور الهدى فعل الرسول
وادخلن حصن الشريعة واهجرن كل مفتون ومغرور جهول
واصطف الرؤوف الرحيم اسع إلى من يزكي النفس عنه لا تحول
رتل القرآن وافقه آية وافهمن سر الإشارة والفضول
آثر الأخرى على الدنيا عسى يقبل الله فتحظى بالوصول
وازهدن فيما يزول مسارعا للذى يبقى بأحوال الفحول
أخلصن لله قلبا قالبا واسألنه الفضل منه والقبول
بر أصليك القريبين ارحمن كل فرد منهما عند المحول
فإذا
صرت من أهل تلك الأخلاق العالية والآداب الراقية تزكو نفسك ويصير الشغل
بذكر الله هو الأحب لقلبك فإذا شغلت نفسك بذكر الله وحب حبيبه ومصطفاه
والرغبة فى معرفة أسرار التنزلات الرحمانية فى الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية فإن هذا بالطبع لن يستقيم لك إلا بدوام يقظة القلب و الإصرار على
ترك الإشتغال بالخلق ولديها فتصير آلات استقبالك كلها موجهة للمصادر
الربانية والفضائيات الإلهية السماوية وقنوات البث المحمدية العلوية لا
للأوساخ الدنية والأخبار الدنيوية من القيل والقال أوكثرة السؤال عما لا
يعنيك من الأحوال فهؤلاء الذين أكرموا هم مقتصدون حتى فى حديثهم فى كلام
الواحد المتعال أو فى حديث الحبيب الأعظم أو سيرة الآل فكيف يستبيحون وقتهم
فى الفضول أو اللهو فضلاً عن باطل أو قيل وقال بأى حال
البشرى الثالثة والعشرون بشرى السلامة فى الصمت
أما
هذه البشرى فهى سرُّ من أسرار السلامة وتجنب الغى والعى والندامة ولذا
بشَّر رسول الله سيدنا معاذ بالسلامة والنجاة فقال له ولنا ولمن يريدون
النجاة والسعادة والسلامة إلى يوم القيامة{إِنَّكَ لَنْ تَزَالَ سَالِماً
مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ}[7]ولذا نصحهم
بوضوح لا يقبل الشك فقال{أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ}[8]أهذا صعبٌ أو ليس
ممكناً قال الحكماء{ فعلٌ وليس بفعل به النجاة بالفعل علِّق باللسان ثقل
أو ضع على الفم قفل} أفيعزُّ على أحدكم أن يسلم وينجو بغلق فمه فوالله لو
عقل هذا أحد لصمت إلى الأبد فنجا ولم يكن مثله أحد إلا من فعل مثله أو زاد
وما الزيادة إلا النطق عند الحاجة بقدر أما الفائدة الثانية فى بشرى الصمت
أن الصمت سرٌّ من أسرار الوصول أوصى به الله وشدَّد عليه الرسول ونصح به كل
عبد بالله موصول ولذا كانت المجالس العملية التى يرتفع بها أهل المعية إلى
الدرجات العلية يقول فيها سيدنا أبو الدرداء{تعلموا الصمت كما تتعلمون
الكلام فإن الصمت حكم عظيم وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم ولا
تتكلم في شيء لا يعنيك}[9] فكانوا يدخلون ورشة عملية يعلمهم فيها رسول الله
الصمت كما نتعلم نحن ونعلم أولادنا الصغار الكلام ولذا كان ابن مسعود يقول
فى الورشة العملية{إن كان الشؤم في شيء ففي اللسان}[10]وكانوا يستخدمون
النماذج التعليمية فكان سيدنا أبو بكر يضع حجراً تحت لسانه فلا يتكلم إلا
فيما يرضى الله فيسألونه ما هذا؟ فيقول وهو يشير إلى لسانه{هذا الذي أوردني
الموارد}[11]{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ}فكانت الورشة الأولى فى العبادة العملية التى كان يُشرف عليها خير
البرية هى تَعَلُم الصمت ومن يدخل هذه الورشة يأخذ ما فيها من بضاعة بعد أن
يُحَصِّل وفى النهاية يعطيه الله جزاء هذه الطاعة مع شهادة التخرج{يُؤتِي
الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً}وشهادة التخرج مكتوب فيها " حكيم" قال النبى{إِذَا رَأَيْتُمُ
الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْداً فِي الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ
فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الْحِكْمَةَ}[12]وقال الشاعر أبو
نواس فى شىء من شعر الحكمة :
خلّ جنبيك لرام وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام
ربما استفتحت بالنطــق مغاليق الحمام
إنما السالم من ألــجم فاه بلجام
وقال حكيم لأبنائه معلماً ومربيَّاً{يا أبنائى صمتٌ قد يعقبه ندامة خيرٌ من نطق يسلب السلامة }ثم أنشدهم قائلاَ:
الصمت زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مكثاراً
ما إن ندمت على سكوتي مرّة ولقد ندمت على الكلام مرارا
وقالوا{لسانك
سبْعٌ إن عقلته حرسك وإن أرسلته افترسك}وقيل{اخزن لسانك كما تخزن مالك
واعرفه كما تعرف ولدك وزنه كما تزن نفقتك وانفق منه بقدر وكن منه على حذر
فإن انفاق ألف درهمٍ في غير بابها أيسر من إطلاق كلمة في غير حقها} وقال
الشاعر فى بيان خطر اللسان:
احفظ لسانك واحتفظ من شرّه إنّ اللسان هو العدوّ الكاشح
وزن الكلام إذا نطقت بمجلس فيه يلوح لك الصواب اللائح
والصمت من سعد السعود بمطلع تحيا به والنطق سعد الذابح
وقال بعض الحكماء عليك بالصمت وإن أصبت في القول وبرزت في الفضل:
رب كلمة قلت جلبت المقدوراً خربت لك دوراً عمرت قبوراً
فاحفظ لسانك أن تنال ثبورا إن المناطق تجلب المحذورا
وللإمام الشافعى قول رائع فى ذلك اشتهر وذاع وروى لآخرين:
احفظ لسانك أيها الانسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
[1] صحيح مسلم عن عامر بن سعد.
[2] رواه البيهقي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ الترغيب والترهيب
[3] عن ابنِ عَبَّاسٍ جامع المسانيد والمراسيل، وكثير غيره.
[4] رواه الإمام الترمذى فى سننه عَنْ أَبي أُمَامَةَ
[5] عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، موطأ مالك ، وكثير غيره .
[6] رواه الترمذي عن أنس وقال: حديث حسن غريب قال الحافظ: رواته ثقات الترغيب والترهيب
[7] صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة.
[8] سير أعلام النبلاء
[9] عن معاذٍ للطبراني في الكبير وللبيهقي في شعب الإيمان جامع المسانيد والمراسيل
[10] رواه أحمد والطبرانى عن عقبة بن عامر.
[11] مكارم الأخلاق (الخرائطي)
[12] لأبي نعيم في الحلية وللبيهقي في شعب الإيمان عن أبـي هريرة فى جامع الأحاديث والمراسيل