البشرى السابعة عشر بشرى التوفيق
هذه البشرى هى بشرى تثلج القلوب وتريح النفوس ودعونى أسألكم: لماذا اتَّبع الناس منذ عهد الحبيب الصالحين ؟ ذلك لأنهم حكماء فى كل أمورهم من قول وفعل وحال ومشورة والحكمة فضل من الله يمُن بها على من يشاء من عباده بفضله وجوده ورحمته ولذلك نجد الحكماء يُلخِّصون لنا الكثير من المعانى والقول فى القليل من اللفظ أو فى قليل من العمل أو الحال مما يَعْظم به الأجر ويُرفع به شأن العبد عند ربه بهذا القليل الذى قدَّمه لمولاه والسر فى بشرى التوفيق قال حبيبى وقرة عينى{قَلِيلُ التَّوْفِيقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعَقْلِ}[1] ولكى نفهم سر هذه البشرى أقول لكم ياهناء وسعد من رزق التوفيق فربما يُحصِّل المرء أمثال الجبال من العقل أى العلم لكنه لا يُوفَق للعمل ببعضها فلا ينال فى الدنيا ما يرجوه ولا فى الآخرة ما يتمناه عند مولاه جل فى علاه وربما يُحصِّل المرء حكمة واحدة ويوفقه الموفق للعمل بها فينال بسببها بركات الدنيا وسعادة الآخرة والمقام العظيم الذى يهواه ويتمناه فؤاده عند مولاه ولذلك اتبع الناس الصالحين والحكماء الربانيين من أجل هذا المراد فقد اختصر الله لهم الكلام اختصاراً واختصر لهم الفعال واختصر لهم الأحوال اقتداءاً بسيدنا رسول الله سيد أهل الكمال حيث قال{أُوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ وخَواتِمَهُ واخْتُصِرَ لي اخْتِصَاراً}[2] ودليل آخر لأهل اليقين الذين يريد الله لهم الرسوخ والتمكين لهم فى المقام الأمين وهو "التوفيـــق" أن يرزقهم الله ويجعل حظهم بين أهل عنايته التوفيق وذاك قليل حتى للكُمَّل من أهل الطريق فإن أهل مقام التوفيق فى كل زمان ومكان قلَّ ونُدْرٌ لأن الله لم يذكر التوفيق إلا مرة واحدة فى كتابه وعلى لسان نبى من أحبابه{وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}فالتوفيق بالله فالعبد الذى فنى عن نفسه وأحياه به ربه فدخل فى قول الله{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}فتولاه مولاه فأصبح هو الذى يحرِّكه ويُسَكنه وهو الذى ينطق على لسانه ويحرك أعضاءه ويده وبنانه وهو الذى يتولاه فى كل شئونه فيوفقه الله فى كل الأمور فإذا نظر فى الحاضرين معه أو حدثهم اسمع ماذا يقول فيه الحبيب{احذَرُوا فِرَاسَةَ الـمؤمِنِ فـإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله وَيَنْطِقُ بِتَوْفِـيقِ الله}[3]فينطق بالكلام الذى يصادف ما فى القلوب فيقول بعض من فى المجلس كأن المتحدث عرف ما فى نفسى فهو عبدٌ موفقٌ تولاه الله بتوفيقه فى نطقه ونظره وإشارته ومشورته والله تعالى يكرمه بهذا وأكثر تأييداً له منه وولاية له منه ورعاية له منه جلَّ فى علاه فمن حظى بنور تلك البشرى وبركاتها وأسرارها يصير فى مقام التوفيق فلا يقطع أمراً إلا ويوفقه الموفق ولا يُصدر قولاً إلا وفيه الصلاح والنجاح والفلاح ولا يُستشار فيشير إلا ويشير بما فيه النفع فى الدنيا والآخرة لأن الله تولاه بتوفيقه وذلك أعلى التأييد من الحميد المجيد لمن اصطفاهم الله وهداهم فى هذه الحياة، ولذلك عندما ارتقى نفر من أصحاب رسول الله إلى هذا المقام قال فيهم{حُكَمَاء عُلَمَاءُ كادُوا مِنْ فِقْهِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِـيَاء}[4]ولبهاء الدين الرواس قصيدة من شعر الرجز يقول فيها فى بيان التوفيق من الله فى الفعل وإجابة الدعاء وإصابة الأفعال أسماها: واللـه لولا اللـه ما اهتدينا :
واللـه لولا اللـه ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
فأنزلن سكينةً علينا وثبِّت الأقدام إن لاقينا
يا ربَّنا يا واهب العناية يا رازق التوفيق مع العناية
من برِّك التوفيق والـهدايه فأوصلن منك الـهدى إلينا
إجابة الدعاء يا ستار شأنك للداعين يا غفار
بذا أتي الآيات والأخبار ونحن عن محمَّدٍ روينا
يا ربنا ندعوك بالقرآن وبالنبي الطاهر العدنان
عمِّر لنا القلوب بالإيمان حتى نقرَّ بالقبول عينا
والأمثلة لا تنتهى فى بشريات التوفيق فى الدعاء وتحقيق الآمال وإجابة الرجاء من خالق الأرض والسماء ومن أكرم وفق للدعاء فلا يحتاج إلى مزيد العناء قيل:
وقد صح أن اللَه في كل ليلةٍ إذا ما بقي ثلث من اللَيل ينزل
إلى ذي السما الدنيا ينادي عباده إلى أن يكون الفجر في الأفق يشعلّ
يناديهم هل تائب من ذنوبه فاني لغفار لـها متقبل
وهل منكم داعٍ وهل سائل لنا فاني أجيب السائلين وأجزل
وقد فطر اللَه العظيم عباده على أنه من فوقهم فلـهم سلوا
لـهذا تراهم يرفعون أكفهم إذا اجتهدوا عند الدعاء ويفعلوا
أقروا بهذا الاعتقاد جبلـه ودانوا به ما لم يصدوا ويخذلوا
على ذا مضى الـهادي النبي وأتباعه خير القرون وأفضل
.