(
وإذ
قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض
من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو ادنى بالذي
هو خير، اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم)طلب بنواسرائيل من موسى عليه السلام ان
يتركوا حياة الحركة والجهاد والمسؤولية والعمل الرسالي في سبيل الله
والتضحية لاعلاء اسمه ورفع كلمته .. وينتقلوا الى حياة التكاسل والخمول
والدعة، حيث لا هم لهم سوى اشباع رغباتهم وشهواتهم. فهم لم يطلبوا من
رسولهم أن يوفر لهم ما يحتاجونه من الطعام بل طلبوا ملذات الطعام.
(
فومها وعدسها وبصلها)وهذا المقطع بالاية بالضبط يرشدنا الى طبيعة بني اسرائيل، فقد انصرف همهم من القضايا الكبرى – كقضايا نشر الرسالة ، و
تطبيق العدالة في جميع انحاء العالم وانقاذ المستضعفين وارساء قواعد حكم
الله – الى مواضيع جانبية تافهة لا يرى العاقل لها اهمية. فالمشلكة حسب
رأيي كانت تكمن في ما اسميه (
تضخيم الجزئيات) فهم اهتموا
اهتماما عظيما في مسألة جزئية كتوفير الطعام والشراب – وقد امروا ان
يجتهدوا في تحصيلها – بحيث انهم طلبوا من نبيهم موسى عليه السلام صاحب
الدعوة المستجابة، ان يطلب من رب الأرباب ان يوفر لهم عدسا او بصلاً!
وتركوا القضايا الاساسية استخفافاً بها او تغافلاً عنها.
ولهذا يخاطبهن نبيهم بهذا المعنى الواضح (
قال اتستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير) اي أنكم كان قد كتب عليكم ان تكونوا ملوكاً في الارض و تنشرون العدالة فيها لكنكم طلبتم الدني واستغنيتم عن ما هو خير لكم. لذلك (
اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)
فإذا قارنا هذه الحالة بحالتنا – كأمة
اسلامية- نرى اننا اصبحنا اليوم نفتش عن قضايا جانبية وهامشية في حياتنا
لنضخمها فنصب جل اهتمامنا عليها، لكي نتناسى القضايا الكبرى والاساسية
لأمتنا ولديننا. فالاسلام حينما جاء، جاء كبيراً شاملاً واسعا يهتم بكل
النواحي وبكل القضايا على حساب كبرها وصغرها، فالاهتمام العظيم للامر
الكبير والاهتمام الصغير لنظيره.
اما نحن اليوم فنضخم جانب من حياتنا فيما
لا يرتبط بواقعنا وننسى بل نتناسى الجوانب الاخرى التي ترتبط بالصميم من
واقعنا. فحتى على الجانب النظري مثلاً نرى اننا نهتم بالمواضيع الجانبية
التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لكن القضايا الفكرية الاساسية، قضايا النهضة
والتطور، كلها منسية.
يقال ان المسلمين حينما فتحوا مدينة
(قسطنطينة) وجدوا الكهنة في حالة بحث شديد عن موضوع تافه وهو: “حينما صلب
النبي عيسى ع – حسب رأيهم – هل صلب ناسوته او لاهوته
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]؟” هنا تنفس المسلمون الصعداء وقالوا ما دمتم مشغولين بهذا الأمر فلن تغلبونا ابدا.
والمسلمون ايضاً شغلوا – فيما بعد- بهذا
النوع من المواضيع التي شغلت عقول الفطاحل من العلماء والمفكرين مدة طويلة
ودارت الكثير من الابحاث والمناقشات بل وقتل الكثير على خلافها وهو ما
يرتبط بموضوع (خلق القران)، حتى أن بعض المؤرخين على ايمان بأن هذه القضايا
اضافة الى الكثير من القضايا الفلسفية الأخرى انما دُسّت الى صميم الأمة
الإسلامية لكي تشغلهم عن الأمور الأساسية.
فنحن اليوم نبتلى بمواضيع جانبية صغيرة لا
ترتبط بحياتنا ابداً فنضخمها ونسعى من اجل تحقيقها حتى اذا ما حققناها
غمرتنا نشوة المنتصر وجلسنا جلسة المختال. فقضية الاهانة الى القران مثلا،
شاهدنا ملايين من المسلمين خرجوا احتجاجا على هذا الامر، وهذا امر جيد..
لكنه يعد امراً جزئيا اذا قلنا ان نفس المسلمون في بلادهم يهان القران مئات
المرات بل الوف المرات يومياً عند عدم تطبيق احكامه والاستهتار بها
ومخالفتها ولا يخرج شخصٌ واحد في مقابل ذلك.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]فالإسلام كما قلنا نزل عظيما، عظيما في
منهجه، عظيما في فكره، وعظيما فيما يتبناه. فالمسلمون الأوائل حينما حملوا
هذا المنهج وذلك الفكر وتبنوا القضايا الكبرى في حياتهم، فتحوا البلدان
وعمروا الأراضي ونشروا العدالة والحرية في ربوع الأرض، فازدهرت حركات الفكر
والثقافة والاقتصاد والتجارة، واستفادت الدول الاخرى – غير المسلمة – من
هذا الازدهار كما يروى المؤرخون. ذلك لأن المسلم الواحد ينشد العدالة لأهل
الأرض جميعاً، يطلب عمارتها لأنه يرى نفسه (خليفة الله) في الأرض ومسؤولاً
عنها. لكن حينما ابتعد المسلمون عن هذا التبني وصار ينبش في مجموعة من
القضايا الصغيرة في محتواها والتافهة حتى وان كانت عظيمة في اعين الناس
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
ومن جانب اخر اصبح كل فرد منا يعيش ضمن
اطار ضيق، في ذاته ولذاته ولأجل ذاته، ويقدس – بل ويعبد – مصالحه الشخصية،
ولأن المصالح الشخصية ضيقة ومتشابكة فإن حالة الصراع والتشتت – كما يأتي في
مقطع اخر من هذه الاية- كانت ثمرة احوالنا.
فالأمة التي لا تملك هما واحداً يجمعها ولا
هدفاً واحداً تسعى من اجله ولا منهجاً واحداً تصهر خلافاتها في بوتقته، لا
تكون الا امة متخلفة متشتتة ذليلة.
فلهذه الاسباب ولأسباب اخر اصبنا بداء
التكاسل والخمول والدعة والتواكل على الاخرين على عكس المجتمعات الاخرى
(كالمجتمعين الالماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية) المتسم بروح
التعاون والعمل الجماعي والحركة. فالذي يستقرأ اوضاع دولة كـ(يابان) والتي
خسرت في الحرب العالمية الثانية واحتل اراضيها و حتى الان لا يسمح لها ان
تمتلك جيشا قويا، كيف استطاعت ان تتحول من دولة ضعيفة مهزومة الى دولة قوية
باقتصادها وبعقول افرادها. ومن جانب اخر حينما نأتي الى دولة من دول
العالم الثالث (المتخلفة) نجدها لا تستطيع – مع توفر الامكانيات- ان تنتفض
على تخلفها ، اقول حينما نستقرأ اوضاع هاتين الدولتين نجد ان احدى المشاكل
هي في (تضخيم الجزئيات) على حساب (الكليات)، أي بالمعنى الفقهى الإشتغال
بالـ(مهم) مع وجود الـ(أهم).
وهنا اتذكر كلمة طريفة لأحد الغربيين يقول فيها: “نحن نساعد الدول الفقيرة بالأموال، فيستثمروها في بناء ملاعب كرة القدم!!”