السبب الرابع الذي يتحدث عنه الله سبحانه
وتعالى في هذه الاية وهي الاية 61 من سورة البقرة هي قضية عصيان القيادة.
لكن قبل ان نشرع في بيانها لابد من بيان مقدمة صغيرة وهي فيما ترتبط بنظرية
القيادة في الاسلام.
تتمحور نظرية الاسلام في القيادة حول ان
القيادة السياسية والدينية لابد ان تجتمعان في مكان واحد وبيد شخص واحد،
يكون مختاراً من قبل الله سبحانه وتعالى، ويجب لهذا القائد ان يكون مبرأ من
كل العوامل التي تؤدي به الى الوقوع في الخطأ، فاضافة الى تنزيهه عن أي
محاولة عامدة للاضرار بالبلاد والعباد، يجب ان يكون منزه – قدر الامكان- عن
الاشتباه والخطأ في الوقوع في ذلك.
ففي النظرية الاسلام يعد رسول الله محمد
(ص) هو قائد القادة، وسيد السادة، سيد البشر، اليه يعود الامر كله، ولهذا
كان لابد لهذا الشخص ان يكون (وما ينطق عن الهوى، ان هو الا وحي يوحى)،
فلهذا وفي النظرة الشيعية عن الانبياء عليهم السلام انهم معصومون ، عصمهم
الله سبحانه وتعالى عن كل ما يشينهم ويزري بهم، عن اي خطأ او غلط.
ومن بعد الرسول (ص) تنتقل القيادة والامرة
الى الائمة المعصومين من بعده، وهم اهل بيت النبوة، خزان العلم، اصول
الكرم. وذلك بنص الاية المباركة (يا ايها الذين ءامنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) فقد ورد في الحديث الشريف ( عَنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع
الْأَوْصِيَاءُ طَاعَتُهُمْ مُفْتَرَضَةٌ قَالَ نَعَمْ هُمُ الَّذِينَ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ
جَلَّ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ).
فهؤلاء ايضا ان يجب ان ينزهون من الخطأ ( انما يريد الله ان يذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) و ايضا كما نقرأ في زيارة الجامعة الكبيرة في حقهم عليهم السلام : (عصمكم الله من الزلل وامنكم من الفتن و اذهب عنكم الرجس وطهركم تطهيرا)
ولسنا هنا في صدد بحث الأحقية في الخلافة والامامة، حيث يبحث هذا البحث المختصون به.
لكن بعد غيبة الامام الثاني عشر، مهدي هذه
الامة، أي في عصر الغيبة الكبرى، حيث انقطع الاختلاف الى الامام المعصوم
(ع)، انتقلت القيادة والامرة الى العلماء الربانيين، فهم يمثلون الامتداد
الالهي لنظرية القيادة والخلافة في الارض، وذلك بنص الحديث المبارك (فَأَمَّا
مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ
مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ
يُقَلِّدُوهُ وَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ
لَا كُلَّهُمْ)
لكن هل تنتقل القيادة الى كل احد؟
ابداً وانما هناك مجموعة من الشروط التي يجب ان تتوفر اولاً في الشخص لكي يمتلك الاهلية لهذا المنصب.
فالعالم الذي يريد ان يتبوأ منصب الافتاء والقيادة لابد ان يمتلك عدة خصوصيات:
اولاً: (صائنا لنفسه ، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه)
أي يمتلك الجزء الاول من المصونية تجاه الاضرار بالرعية، فالذي يمتلك هذه
الصفات الثلاث التي تدل كلها على صفة واحدة وهي (التقوى) لا يمكن ان يتعمد
الاضرار بالرعية، بأن يتخذ قراراً او يصدر حكما له فيه مصلحة، بل يحرص ان
تكون كل أعماله (لله فيه رضا).
اما الخصيصة الثانية وهي (حافظا لدينه) يصونه
–حسب الامكان- عن الاضرار بالرعية عن طريق الخطأ والاشتباه. فليس كل خطأ
يغتفر او يعتذر، فزلة العالم – حسب ما جاء في الرواية- ليس كغيرها من
الزلات، فقد جاء في الحديث عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال (زلة العالم كانكسار السفينة، تَغرق، وتُغرق).
فالعالم يجب ان يمتلك العلم الكافي في المجالات المختلفة لكي لا يقع في
الخطأ. فمن جهة لا يمكن ان يقع يضر بالاخرين عن طريق العمد والاصرار لأنه
متقٍ لله ومن جهة اخرى تكون احتمال وقوعه في الاشتباه أقل قدر ممكن لأنه
عالم وفقيه بامور الدنيا فلا تلتبس عليه اللوابس.
فالقيادة مهمة في الاسلام ايما اهمية، فكما
يقول المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله: “ان
القائد الحقيقي لابد ان يتمثل في العالِم الرباني الذي يعمل لله ، ويقود
الناس الى الله وفي سبيله ، وبذلك يكون له اجر عظيم عند الخالق – عز وجل – ،
ونحن لو قارنا العالِم بالعابد لراينا ان الثاني يستهدف انقاذ نفسه مـن
العذاب فحسب في حين ان العالِـم يبذل جهده لكي ينقذ الناس جميعـا ، ولذلك
جـاء في الحديث الشريف : ” فضل العالِم على العابد كفضل البدر على سائر
النجوم “”
وجدنا القائد، فماذا بعد؟
لكن بعد أن يبين الله سبحانه وتعالى وتبين
الروايات الصفات التي لابد ان يتحلى بها القائد حتى يكون مؤهلاً لهداية
سفينة المجتمع الى ساحل البر والأمان، بعد ذلك يأمر المسلمون بأن يبحثوا عن
هذا القائد فإن وجدوه يأمرهم باطاعته.
فما فائدة قائد فذ يمتلك كل الصفات المؤهلة للقيادة، لكنه وحيداً لا يلتف اليه الناس، او آمراً من غير اطاعة؟
فهل ينتصر القائد الذي لا ينصاع الجنود لأوامره ولا ينفذون خططه وبرامجه؟
وهل ينجي الربان سفينته من بين الاعاصير الا باطاعة الاخرين له؟
فاذا لم يطيعوه، فلم يفلحوا. فمن نلومه، القائد ام المقود؟ الآمر أم المأمور؟
فالقائد يستمد قوته من الجمهور والجمهور
يتوحدون تحت راية القائد، فمن دون وجود جمهور مطيع للقائد لا يمكن ان يصل
الاخير الى اهدافه وطموحاته ولا يمكن ايضا ان يلام على فشله.
فهل يلام استاذٌ ربى تلامذته على الاجتهاد والتعب، فلم ينفذوا كلامه ففشلوا؟
لذلك فإن اهم نقطة محورية في نظرية القيادة هي قضية (الاطاعة) للقائد.
(ذلك بما عصوا)
فبنواسرائيل وُهبوا نعمة ربانية عظمى، متمثلة بقيادة نبي من انبياء الله، بل من اعاظمهم وهو النبي موسى(ع).
ففي بداية بعثته، التفوا حول رايته، سمعوا
كلمته، اطاعوه .. صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وانثاهم. أمرهم بأن يسيروا باتجاه
اليم، حيث لا سبيل لتجاوزه، ومن ورائهم جيش جرار.. لكنهم اطاعوه ونفذوا ما
اراد. فانتصروا – بتلك المعجزة الالهية – على فرعون وجنده و أورثهم الله
الارض بفضل صبرهم واستقامتهم واطاعتهم لقائدهم الرباني.
لكن في المرحلة الثانية بدأ العصيان، بدأت همسات الاعتراض يمينا وشمالا. دعونا نقرأ بعض منها كما وردت في القران الكريم.
(وَ
جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ
آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)
فهؤلاء بمجرد ان تجاوزوا البحر و انتصروا على فرعون طلبوا هذا الطلب العجيب من موسى متناسين كل المعاجز التي حدثت لهم قبل لحظات.
(وَ
إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)
(يا
قَوْمِ ادْخُلُوا الأْرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ، قالُوا يا
مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ )
وغيرها من العبارات القرانية التي تدل على عصيانهم على هذا النبي العظيم، فابتلاهم الله سبحانه بالتيه في الصحراء اربعين سنة.
أما نحن المسلمين اليوم، فحالتنا ليست
اجنبية عن حال بني اسرائيل عند ذاك، فمع امتلاكنا للقيادات الفعالة في
المجتمع المتمثلة بالمرجعيات الدينية الرشيدة، والقيادات الوسطية المتمثلة
بالعلماء والخطباء والطليعة الرسالية، إلا اننا لا نملك العزم والحزم
الكافي للالتفاف حولهم والدفاع عنهم والانصياع لأوامرهم، وتنفيذ فتاواهم.
فهل خسرنا حين حُمنا حولهم، حومان الفراش حول شعاع الضياء؟
هل خسر المسلمون حين نفذوا الفتوى الشهيرة للميرزا الشيرازي في (ثورة التنباك) فطردوا الاستعمار البريطاني من البلاد الاسلامية؟
هل خسروا حين التفوا حول السيد الخميني فانتصروا في الثورة الاسلامية في ايران؟
ام خسروا حين تركوا العلماء عرضة للقتل والتهجير والتنكيل في العراق؟
ام خسروا حين تركوا امثال الشهيد السيد محمد باقر الصدر او الشهيد السيد حسن الشيرازي؟
فالخسارة خسارة عظيمة في العصيان، والربح عظيم في الاطاعة.
فلا يظن احد منا، ان باستطاعته ان يلقي باللوم على الشرق والغرب، وعلى القيادة ، وعلى العلماء .. من غير ان يلوم نفسه ويسأل نفسه: هل كنت بالمرتبة المناسبة لاطاعة القائد؟ المرجع؟ العالم؟ ..؟
فالامام علي امير المؤمنين عليه السلام
بعظمته، حينما يسأل الامام الباقر عليه السلام عن السبب الذي لم يبين
الامام علي عليه السلام، جميع الاحكام لعامة الناس ( فمثلاً لم يغير الكثير
من البدع التي كانت في زمانه) فلم يبين الناسخ من المنسوخ، لكن كان يعلمها
ولده ، حيث يقول معمر بن يحيى:
سألت أبا جعفر ع عن عن علي ع في اشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا أنه ينهى عنها نفسه و ولده؟
.. فقال الامام ع : قد بين لكم اذ نهى نفسه و ولده.
فقلت: ما منعه ان يبين ذلك للناس؟
فقال ع : خشي ان لا يطاع ، ولو أن علياً ع ثبتت له قدماه أقام كتاب الله والحقَّ كله.
تعالوا نتأمل في مدى فاعلية القيادة
الربانية واحتياجها الى التفاف الناس حولها والاطاعة المطلقة لأوامرها، عبر
ذكر واقعتين تاريخيتين في صدر الإسلام.
فالرسول الأعظم (ص) قام بغزوتين متتاليتين،
رجع من الأولى منتصرا وكاد أن يقتل في الثانية. ففي غزوة بدر انتصر
المسلمون -مع قلتهم- على المشركين –مع كثرتهم- لتطبيقهم اوامر القائد
الاعلى المتمثل بشخص رسول الله (ص) تطبيقاً حرفياً دقيقاً. فالرسول (ص) حسب
التعبير القراني وضع كل شخص من الأشخاص في مكانه المحدد ونظم خرطة حربية
دقيقة لم يكن لها مثيل الى ذلك اليوم، فكما جاء في القران الكريم (وإذ غدوت من اهلك تبوأ المؤمنين مقاعد للقتال)
فوضع كل فرد في مكانه المحدد. وقد جاء في الكتب التاريخية التي تروي
تفاصيل هذه الحادثة، أن من اسباب انتصار المسلمين في حرب بدر – اضافة الى
الجانب الغيبي- كان في كيفية تنظيم الصفوف من قبل الرسول (ص)، فقد اتبع
النبي طريقة فريدة وذلك بتنظيم الصفوف على شاكلة مثلثات صغيرة متراصة
ومتداخلة مع بعضها البعض، في حين كان الأسلوب الشائع حتى ذلك اليوم، اسلوب
(الدوائر) و (المربعات). فالمسلمين في هذه الغزوة طبقوا تعاليم النبي
واوامره، الواحدة تلو الاخرى فانتصروا على الاعداء.
لكن في غزوة احد والذي انتصر المسلمون فيها
بادئ الأمر، الا ان تخلف بعضهم عن اوامر الرسول (ص) و تخلفهم عن المكان
الذي امرهم الرسول (ص) بحراسته أدى الى نكسة في الحرب، وانقلاب الأمر على
المسلمين وخسارتهم في تلك الحرب الذي انكسر فيها رباعية الرسول وكاد ان
يقتل لولا حفظ الله له ودفاع امير المؤمنين علي بن ابي طالب عنه.
ترى ماذا كان ليحدث لو أن هؤلاء النفر
ثبتوا على الجبل واطاعوا الرسول؟ فلعل انتصار المسلمين في تلك المعركة كان
ضربة قاضية على المشركين وحلفائهم، فكان سيؤدي الى استسلامهم وتوقيع معاهدة
الصلح او الاستسلام قبل ذلك بكثير.
والغريب ان العاصي لأوامر القيادة، يظن
نفسه دائماً انه يفعل الخير، فيجلب لنفسه النفع او يدفع عنه الضرر، لكن
تبعات عصيانه ستعود عليه اضعافاً مضاعفة بعد ذلك.
كذلك الامر بالنسبة الى حروب الامام امير
المؤمنين عليه السلام، ففي حرب الجمل حينما خرج لقتال الناكثين الذين نكثوا
بيعته وقتلوا واليه على البصرة، انتصر على عدوه بفضل الاطاعة التي حضى بها
بين جنوده واعداءه. الا انه في صفين وبعد ان كاد لينتصر على معاوية، انقلب
الجيش عليه مطالباً اياه بالتحكيم – وقد كان من الرافضين لذلك- ومن ثم
ترشيحهم ابي موسى الاشعري – وقد كان قد رفضه ايضا- فحدث ما حدث بسبب
العصيان.
كذلك الأمر بالنسبة الى تخلف اهل الكوفة عن
الوقوف مع مسلم بن عقيل (ع) مخافة القتل او التشريد، فرجع عليهم الأمر
اضعافاً مضاعفة حينما بدأ عبيد الله بن زياد بالتنكيل بيهم وقتلهم على
الظنة والتهمة.
فمن الاسباب التي أدت بنا – نحن المسلمين – الى ما نحن عليه تخلفنا عن قادتنا.
فبالتففنا حول القائد الخاطئ والذي لم
تتوفر فيه الصفات المناسبة تارة، وتارة بتركنا الالتفاف حول القائد الرباني
المؤهل لذلك، نكون قد وصلنا الى ما وصلنا عليه من التشرد والتشرذم.
وهذه الامثلة تتكرر على مر التاريخ وحتى يومنا هذا